يبدو أن السودان سيظل يدفع ثمن حريق الجنوب السوداني لزمن طويل وربما لأجيال قادمة. هذا الحريق الذي قدح زناده المستعمر وللأسف الشديد صبت النخب السودانية والحكومات المتعاقبة الزيت على النار لتزيد اشتعالاً، وتم خلق مشكلة السودان (وليست مشكلة جنوب السودان) بواسطة المستعمر وللأسف الشديد تولت الحكومات المتعاقبة رعايتها حتى انتهت إلى انفصال الجنوب، والذي كان يظنه الكثيرون بأنه العلاج الناجع لإنهاء الصراع وحروب امتدت لما يزيد عن نصف قرن من الزمان. ولم يكن ذلك الظن إلا نتاج قصر نظر الإدعاء الكاذب بمعرفة المشكلة السودانية والإدعاء الاكذب بأن علاجها الشافي هو الانفصال كما كانت تشير تصريحات النافذين والمتنفذين (بأن السودان على استعداد للتضحية بفقدان جزء عزيز من ترابه ثمناً للسلام). وبالمقابل كان قصر النظر لدى الطرف الآخر الذي كان يعيش حلم ووهم الاستقلال (بأنه الأفضل للجنوبين أن يعيشوا مواطنين من الدرجة الأولى بدلاً من مواطنين من الدرجة الثانية في حالة التصويت للوحدة) هذا الوهم والحلم بالاستقلال الذي انقلب إلى كابوس مرعب تغذيه الرماح والبنادق والرصاص لحصد أرواح الجنوبيين. إن المرارات التي تولدت من الممارسات التي صاحبت الإدعاءات والأعمال الأمنية لحل مشكلة الجنوب ستظل زمناً طويلاً يصعب تجاوزها، إن لم نقل إن تجاوز تلك المرارات يصل إلى خانة الاستحالة. وبالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه السودان ودولة جنوب السودان من الانفصال الذي سعى إليه الطرفان ، إلا أن هذه الكارثة حملت في طياتها جانباً من الإيجابيات اهمها إدراك الأخوة في الجنوب خطأ اختيارهم للإنفصال والذي جاء في شكل اعتزارات فطيرة بأنهم كانوا يتلقون معلومات مضللة وكاذبة من جهات كانوا يعدونها لتولي إدارة الدولة الجديدة)، وفي المقابل أدرك السودان خطأ تقديره بأن الانفصال سينهي الأزمة وسوف تنعم الدولتان بحوار آمن. هذا التقديم ليس تشاؤماً ولا حزناً إنما تقرير لواقع عشناه ونعيشه وسوف نعيشه لفترة ليست بالقصيرة يتوالى فيها عرض تراجيديا (حريق السودان –ولا نجد العذر لأنفسنا بتعليق فشلنا على شماعة (الاستهداف الخارجي) وذلك لعدة أسباب منها أولاً: أننا دائماً ننظر للأزمة بمنظار أمني وثانياً: أننا (شماليون وجنوبيون) نتعامل مع الأزمة بمنظور تكتيكي وليس منظور استراتيجي، وثالثاً: أننا نتعامل مع الأزمة بإطفاء الحريق ولا نبحث عن مسببات اشتعاله لكي لا ينشأ مرة أخرى ولعل ذلك يبدو ظاهراً فيما كشفته مصادر دبلوماسية بدولة جنوب السودان عن زيارة مرتقبة لوزير خارجيتها دينق ألور). فيما أعلنت الحكومة السودانية عدم جاهزيتها لاستقبال وفد حكومة دولة الجنوب الذي يضم وزراء الخارجية والدفاع والأمن والداخلية وحددت السادس من يوينو موعداً للزيارة. ويأتي ذلك على خلفية تجدد الاتهامات بين جوباوالخرطوم بشأن إيواء ودعم المتمردين من الطرفين وتطورت الأمور في الاتجاه السالب حيث أصدر مجلس وزراء حكومة السودان قراراً يقضي بمعاملة الجنوبين المقيمين في السودان كأجانب واتخاذ الإجراءات القانوينة ضد كل من لم يحمل جواز سفر وتأشيرة رسمية كما هدد إبراهيم محمود بأن بلاده قد تضطر لإغلاق الحدود إذا استمرت جوبا في دعم الحركات المتمردة، وسبق أن أصدر الرئيس البشير قراراً في فبراير الماضي يقضي بفتح الحدود بين البلدين بعد إغلاق استمر أربعة أعوام، وقد تزامن ذلك مع إصدار قرار الرئيس سلفاكير بسحب وحدات الجيش الشعبي من الحدود والبدء في تطبيع العلاقات. يؤكد ذلك استمرار طريقة التعامل مع الأزمة، ويعزز ذلك ما نسوقه من أمثلة: أولاً: بعد توقف الطرفان عن القتال بين سلفاكير ومشار بعد ولادة متعسرة وضغوط دولية، تم تكوين حكومة الوحدة الوطنية، وأسند ملف الخارجية إلى (دينق ألورولعل ذلك فيه كثير من الإشارات السالبة إذا لم نقل سوء النية). وذلك لأن دينق ألور من أبناء أبيي ويرجع تعقيد مشكلة السودان مع جنوبه إلى بعض أبناء أبيي بقيادتة فتولى دينق لأي منصب وزاري ناهيك عن وزارة الخارجية يعني اعادة ملف أبيي للواجهة، فبعد الحرب الداخلية بين مشار وسلفاكير توجه أبناء أبيي بطلب للاتحاد الأفريقي يطلبون مناقشة مشكلة أبيي مع ممثليهم وليس مع حكومة الجنوب، وأن حكومة الجنوب لا يحق لها أن تتحدث باسم أبناء أبيي. هذا من جانب، أما من الجانب الآخر فتاريخ (دينق ألور) القريب يظهر عداءه المستحكم للشمال. فبعد تشكيل الحكومة من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني بعد اتفاقية نيفاشا اسندت وزارة الخارجية إلى لام أكول، ولأن لام أكول كان يتصرف كوزير خاريجة لكل السودان لم ترض عنه أمريكا ولا الحركة الشعبية. فعندما وجهت الدعوة حينها لسلفاكير لزيارة الجنوب لم تعط أمريك لام أكول تأشيرة دخول على الرغم من أنه كان نائب رئيس الحركة ووزير الخارجية، والسبب في ذلك يرجع إلى أنه كان يتصرف كوزير خارجية لكل السودان. فعندما عاد سلفاكير من الولاياتالمتحدة كان أول ما قام به هو اقالة لام أكول وتعيين دينق ألور وزيرا للخارجية والذي قام بالدور الذي اسند إليه بإمتياز في تأزيم علاقة السودان مع الغرب بصورة مجملة وتحريض الولاياتالمتحدة ضد السودان كان أول تصريح صدر من دينق ألور بعد توليه وزارة الخاريجة في حكومة الوحدة الوطنية لدولة الجنوب، هو (أن العلاقة بين جوباوالخرطوم سيئة ويجب اصلاحها) ووصف في نفس التصريح دولاً أخرى بأنها ساهمت في استغلال دولة الجنوب مثل يوغندا وأثيوبيا وكينيا. وجاء تصريح ألور بعد تصريح سلفاكير الذي قال بأنه (مستعد للتطبيع مع الخرطوم بالمجان) ومن هنا يظهر الفرق. ثانياً: (دينق ألور) ينتمي للمجموعة التي يطلق عليها أبناء قرنق وهي المجموعة المتحالفة مع الغرب وإسرائيل لتفتيت السودان، وأن الإنفصال هو أول خطوة في هذا الاتجاه. بعد اندلاع الحرب الجنوبية – الجنوبية – ترى مجموعة أبناء قرنق أن إيقاف الصراع الجنوبي – الجنوبي لن يتم إلا بإشعال الحرب مع الشمال (العدو المشترك) ولذلك في سعيهم لإيقاف الصراع الجنوبي – الجنوبي لم يبحثوا عن أسباب الأزمة وحلها ولكنهم بحثوا عن أسهل طريقة لإيقاف هذه الحرب المدمرة، فكان الإتفاق على إعادة إشعال الحرب مع الشمال مرة أخرى. لا نسوق ذلك بإلقاء الاتهامات والحديث على عواهنه، إنما الأحداث تؤكد ذلك منها: أولاً: أن أفضل فترة للتعامل مع حكومة الجنوب والتفاهمات معها لم تتم إلا بعد اندلاع الصراع الجنوبي – الجنوبي واعتقال أبناء قرنق ونفي بعضهم خارج الجنوب. ثانياً: لم يعد التوتر بين الشمال والجنوب وتبادل الاتهامات إلا بعد انفاذ اتفاق أروشا المُوقع بين أطراف النزاع الجنوبي الثلاث وعودة أبناء قرنق مرة أخرى. ثالثاً: بعد انهيار اتفاق أروشا التنزانية وعودة أبناء قرنق إلى الخارج وتجدد الصراع الجنوبي - الجنوبي عاد هدوء الأحوال مرة أخرى للعلاقة بين حكومة جنوب السودان وحكومة السودان. رابعاً: والآن وبعد تكوين حكومة الوحدة الوطنية الجنوبية وعودة أبناء قرنق مرة أخرى تجددت الاتهامات بين حكومة الجنوب وحكومة السودان مرة أخرى، وصاحب ذلك عودة مظاهر التوتر بين السودان والعالم الغربي وخاصة الولاياتالمتحدة بعد تحسن نسبي سار في الاتجاه الإيجابي. وكما بدأنا المقال سوف يستمر حريق السودان ما لم تتغير طريقة التعامل مع الأزمة من الجانبين وما لم يتم تدارك ذلك، وذلك بالآتي: العمل على معالجة جذور المشكلة. التعامل الاستراتيجي وفق منظور استراتيجي بين الدولتين. النظر للأزمة وحلها والتعاطي معها وفق منظور سياسي. بناء الثقة بين الأطراف وبداية ذلك بالإعتراف والإعتذار عن المظالم والممارسات التي أدت إلى ذلك والإقرار بالاختلافات الثقافية والدينية والعرقية مع الاستعداد لقبول الآخر. مدير مركز السودان للدراسات الاستراتيجية