شكراً للأخ المشير/ عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، ولك يا أخي مصطفى على هذه المبادأة والمبادرة لإثارة هذا الموضوع الحيوي المهم، موضوع (الاتحاد بين شطري وادي النيل مصر والسودان). وبإثارتكم لهذا الموضوع كأنما قد رميتم حجراً في بركة ساكنة فانداحت الأقلام يميناً وشمالاً بالآراء والأفكار، وسودت الصحف في هذا الموضوع بين حادب مندفع، وبين متردد ومتحفظ.فالموضوع- يا أخي مصطفى- قديم حديث، وحديث قديم، قديم لأنه كان الحلم والغاية المبتغاة لأسلافنا من جيل العمالقة من الاتحاديين والرواد الأوائل.. عليهم رحمة الله، وحديث لأن الأقلام التي أشرعت الآن متناولة للموضوع- فيما أحسب- أنها لأناس حادبين وجادين وموقنين ومؤمنين بالفكرة، وصادقين في توجههم ودعواهم نحو هذه الغاية النبيلة. إن ما يجري في بلادنا الآن قدح الزناد وشد الانتباه الى ضرورة وحتمية تحقيق هذه الغاية.إن عالم اليوم هو عالم الكيانات الكبيرة والمؤسسات الضخمة، ولم يعد فيه أي مجال للتشرذم والتفرقة والشتات، وإن جاز لي أن أدلل وأضرب الأمثال، فدوننا (الاتحاد الأوربي) والذي يتكون الآن من نيف وعشرين دولة كانت في الماضي- كما يحدثنا التاريخ - متنافرة ومتفرقة، استعرت الحروب المدمرة بينها ردحاً من الزمان طويل، وكذلك (الولاياتالمتحدةالأمريكية) التي تسود العالم اليوم وتتحكم في مصير شعوبه وأقدارها، كانت كذلك وأين هي اليوم بفضل ما تم من اتحاد بين الفرقاء المتحاربين، ومالي أذهب بعيداً فإن ديننا الحنيف في كل تعاليمه وآدابه يدعونا ويحضنا على الوحدة وعدم التفرق والاعتصام بحبل الله جميعاً، والناس دائماً في مثل هذه المواقف تستشهد بقصة الرجل الحكيم المسجى على فراش الموت في نصيحته لأبنائه حين طلب منهم تكسير الرماح مجتمعة فاستعصت عليهم، لكنها تداعت وتكسرت عندما افترقت.. وحينذاك قال لهم: أنتم مثل هذه الرماح، فإن في اتحادكم قوة ومنعة، وفي تفرقكم هوان وضعف.. فأنشدهم قائلاً: كونوا جميعاً يا بني اذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا كل هذه دروس وعبر تدفعنا إلى حث الخطى والإسراع بقيام هذا (الاتحاد) اليوم وليس غداً. إن التأني والمماحكات والدخول في سفسطة وجدل بيزنطي لن يفيدنا كثيراً.. ولا أدري لِمَ التوجس والتردد من الإقدام على هذا الأمر.. وإن (الاتحاد) المنشود سيبنى على أسس وغرار ما حولنا في العالم، وإن التخوف من أن السودان سيذوب ويكون ظلاً لمصر بقيام هذا (الاتحاد) ليس وارداً، بدليل الدول الأوربية وكل ولاية في (الولاياتالمتحدة الأمركية)، فهل هناك أية دولة أو ولاية فقدت اعتبارها وذابت في الكل الجامع.. كلا.يتعلل البعض أيضاً بأنه يجب أولاً معالجة مشاكلنا الراهنة وتوفيق أوضاعنا الداخلية قبل النظر في أمر هذا (الاتحاد)، ولربما كان في قيام هذا الاتحاد تسريع لحلحلة تلك القضايا والمشاكل. إن غايتنا الكبرى ليست في (الاتحاد) مع مصر فحسب، بل في وحدة شاملة وكاملة مع جميع الدول العربية كما نادى من قبل عرابو ومنظرو وفلاسفة (القومية العربية) أمثال الاستاذة (ساطع الحصري) و(ميشيل غفلق) و(منيف الرزاز).إن الصراع على السلطة في بلادنا قد تمدد وطال واستطال ولم يهدأ لنا بال ولم يكن هناك استقرار حقيقي منذ أن نلنا استقلالنا في عام 1956م، وللأسف فقد وصل بنا الحال إلى الاحساس بأن هذا السودان قد يكون أو لا يكون.إن مشكلتنا في السودان هي أننا نحاول دائماً البحث عن شماعات- خارج ذواتنا- لنعلق عليها أخطاءنا وقصورنا وعيوبنا.. وفي الحقيقة أن العيب- يا سادتي- كامن فينا.. ورحم الله (أبا الطيب المتنبيء) حين قال: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقال أيضاً كما في رواية (العكبري): ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على (التمام) أو كما في رواية أخرى للدكتور طه حسين: ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على (الكمال) وفي جزئية مما يقوم به (الاتحاد الأوربي) في سبيل صهر شعوبه في وحدة كاملة ومتجانسة، فقد لاحظت أن طفلاً هولندياً بما يقابل مستوى المرحلة الأساس عندنا، في غضون بعثتي الدراسية (بأوربا) خلال الستينيات من القرن الماضي، أن من مقرراته الدراسية دراسة أربع لغات- لغته (الأم) وثلاث من اللغات الحية لبعض دول الاتحاد.فلنمضِ أخوتي- بإذن الله- دون أن نلوي على شيء، بثقة واطمئنان على قيام ذلك (الاتحاد) بغية تفجير الطاقات والإمكانات الضخمة الكامنة لدى الشعبين الشقيقين من خبرات وموارد طبيعية وبشرية، والتي إن لم يسعدنا الزمان بجني ثمارها، فحرام أن نحرم أجيالنا منها.واختتم هذه الكلمات بأبيات لأستاذنا الراحل الدكتور عبدالله الطيب من بكائية في رثاء (شاعر النيل) حافظ إبراهيم بالقاهرة في منتدى أقيم خصيصاً لهذه الذكرى، وفيها يصف الطائرة التي سافر بها إلى القاهرة يقول: أقول وقد حلقت في الجو عنس رداح الشاو مترزة الحديد يقعقع في الصماخ الرعد منها ويرهب بونها كبد الجليد وأشكر (للكنانة) إذ أقامت بذكرى (حافظ) سوق القصيد وأمدحه وأمدح مادحيه بأرصن في المسامع من (لبيد) بني وطني وما وطني سواكم بنو النيلين و(الهرم) المشيد والأبيات تأتي متلازمة مع موضوعنا، وإلى الأمام في تفعيل (المنبر الاتحادي)، فإن رواده من النابهين في ازدياد كما أرى والله الموفق.