من المؤكد أن إنخراط القوى السياسية المتعددة بجنوب السودان في الحركة السياسية قد زاد واتسعت مساحته بعد الإستقلال وقد إتسم أداء هذه القوى بالعنف تارة وبالحوار تارة وذلك اعتماداً على نوعية النظام السياسي القائم، وقد تميز هذا الأداء أيضاً بالشمول فلم يعد مقتصراً على الجوانب السياسية فقط بل شمل جوانب أخرى مثل الجوانب الثقافية والتعليمية والدينية ومجالات العمل والعلاقات الاجتماعية ونحو ذلك مما يمكن أن يؤدي الى استكمال بناء الأمة السودانية الذي لا يمكن الزعم بأنه قد اكتمل حالياً ومجمل ما نرمي اليه هو أن هذه المشاركة لم تكن نبتاً شيطانياً وإنما هي مبنية على إرث كفاحي جنوبي متصل والحركة الوطنية السودانية مثل غيرها من الحركات الوطنية بدأت بالمقاومة المحدودة للحكم الأجنبي الأول (التركي) وعندما انتظمت فيها القوى السياسية المختلفة تبلورت القيادة ونضجت الظروف الموضوعية وأصبح تحقيق الأهداف في الإمكان. وقد كان الحكم التركي يسيطر على كل الأراضي السودانية ومنذ بداية دخول الحكم التركي في السودان (182م) ووجه بمقاومة من كافة القبائل وأن رغم هذه المقاومة لم تكن من مركز واحد إلا أنها ساهمت في تصعيد روح العداء للحكم التركي في كل أقاليم السودان وتشجيع التمرد على ممارسات الحكام الدخلاء ويمكن أن نشير هنا الى ثورات جبال النوبة وثورة الجهادية في كسلا عام 1865م وثورة هارون الرشيد في دارفور وثورة صباحي في كردفان وثورة سليمان الزبير في بحر الغزال وغير ذلك من الثورات وحركات التمرد. على الرغم من أن المركز الرئيسي للثورة المهدية كان في شمال السودان إلا أن القبائل والمجموعات الجنوبية ساهمت بفعالية في إنجاح الثورة وقد أكد كل من (ساندرسن) و(كولنز) أن الثورة ساندتها قبائل الشات والدمبو والشلك والنوير والأنواك إضافة الى قبائل بحر الغزال التي لها صلات طيبة مع القبائل التي تعيش في شمالها وهذا ما يؤكد وطنية الثورة المهدية. وكما وجد الحكم التركي مقاومة في الشمال والجنوب فان الحكم الثنائي قد وجد أيضاً مقاومة شرسة ولم يكن إخضاع القبائل خاصة في جنوب السودان أمراً سهلاً أو ميسوراً. وأشارت التقارير الرسمية الى أن حملات التأديب ضد النوير قد بلغت ما بين عامي 192م و 1929م حوالي عشر حملات كما جرت حملات تأديبية أخرى ضد الدينكا امتدت من عام 197م الى عام 1923م وضد اللاتوكا عام 1916م والتبوسا عام 1922م ولم يتم إخضاع هذه القبائل نهائياً إلا عام 1932م. ü تمثل ثورة 1924م تحالفاً بين صفوة العسكريين والمدنيين من خريجي المدرسة العسكرية وكلية غردون على اختلاف قبائلهم من الشمال والجنوب والحديث عن العنصر الجنوبي في ثورة 1924م كعنصر قائد له مبرراته ولكنه لا ينفي عن الثورة هويتها الوطنية. لقد كانت سياسة الحكم الثنائي للقبول في المدرسة الحربية تقوم على تفضيل العناصر ذات الأصول العرقية غير العربية وذلك لأن القبائل العربية المسلمة هي التي كانت اساس الثورة المهدية بالإضافة الى أن الحكم الثنائي كان يخشى إرتباط هذه القبائل بالحركة العربية الإسلامية التي اشتد عودها في العالم العربي آنذاك. ورغم كل ذلك فان الصلة نمت بين العنصرين الزنجي والعربي وتولدت الهوية السودانية متمثلة في على عبد اللطيف وعبدالفضيل ألماظ وحسن فضل المولى وزين العابدين عبد التام وسيد فرح وعلي البنا وأحمد سعد وعبد الله خليل وحامد صالح وعبيد حاج الأمين ومحمد المهدي الخليفة وحاج الشيخ عمر وأحمد عمر باخريبة والطيب بابكر وصالح عبد القادر ولقد كانت ثورة 1924م تتويجاً لنشاط (11) تنظيماً سرياً ومن بينها جمعية الإتحاد السوداني وجمعية أبناء النيل وجمعية اتحاد القبائل وانزعج البريطانيون بسبب مساهمة من اسموهم (عناصر زنجية) في الثورة وكشف ذلك عن فشل تخطيطهم فسارعوا الى إغلاق المدرسة الحربية وسعوا الى فصل الجنوب عن الشمال ü منع البريطانيون الشماليين خاصة في كردفان ودارفور- من دخول مديرية بحر الغزال ومنعوا أهل بحر الغزال من دخول كردفان ودارفور وطلبوا من الدينكا الذين يقطنون في الشمال العودة للجنوب وطبق نظام جوازات المرور بين الشمال والجنوب وأبعد الضباط الشماليون من الفرقة الاستوائية التي أنشئت عام 1917م ونتيجة لذلك اتسعت الهوة بين الشمال والجنوب في المجالين الإقتصادي والتعليمي فبينما كان التطور بطيئاً في الشمال كان متوقفاً في الجنوب واقتصر على مزرعة صغيرة للمطاط وتجارب للقطن والبن ولم تفلح سياسة الفصل في تحقيق هدفها بقطع كل الروابط بين الشمال والجنوب وامتدت لجان مؤتمر الخريجين الى جوبا وملكال في الجنوب مما خلق صلات جديدة بين بعض المتعلمين في الشمال والجنوب رغم محدودية هذه الصلات ونتيجة لإخفاق سياسة الفصل حدث تغيير جوهري في سياسة الإدارة البريطانية يميل نحو وحدة السودان وأصدر السكرتير الإداري منشوراً يدعو فيه الى إعادة النظر في تلك السياسة ورؤى في النهاية أن يعقد مؤتمر في جوبا 1947م حتى يناقش الجنوبيون السياسة الجديدة وعبر الشماليون في المؤتمر عن معارضتهم لأية سياسة تؤدي الى الإنفصال بينما عبر الجنوبيون عن مخاوفهم من سيطرة الشماليين ولكنهم لم يرفضوا قيام جمعية تشريعية لكل السودان شريطة أن تكون للحاكم العام سلطات استثنائية بالنسبة للجنوب.