أما وقد استبان الأمر وانجلى مشروع تقرير مصير جنوب السودان لصالح الانفصال وقيام دولة مستقلة بجنوب السودان، من خلال المجاهرة السافرة في سلوك وأقوال قادة الحركة الشعبية ومناصرة المجتمع الدولي الغربي ومعظم دول الجوار الجنوبي.. ارتبكت مواقف القوى السياسية الشمالية وتراوحت بين شجاعة المؤتمر الوطني وتحمله مسؤوليته التأريخية من ناتج عملية تقرير المصير كأحد الشريكين الأساسيين في اتفاقية السلام وحقبة الحكم المعاصرة، إلى مواقف تنصل القوى السياسية والعقائدية والطائفية التي شاركت في مراحل حكم البلاد في الحقب السابقة. إن قضية وحدة السودان لم تكن طوال الفترة الانتقالية محل اهتمام أو قناعة للحركة الشعبية، بل كان الحديث عن الوحدة تكتيكاً مخادعاً وظفته الحركة في الصراع السياسي مع المؤتمر الوطني الذي لم يكن يوماً من الأيام شريكاً حاكماً يستحق تعاونها، بل لا يزال عندها في خانة العدو الاستراتيجي القديم الذي تختلف معه في جملة الأهداف والوسائل.. وقد كتبت سابقاً أن موقف وأقوال مؤسسها وقائدها د. جون قرنق الوحدوية تعني فقط طموحه أن يتمكن من حكم السودان بعد سحق الإنقاذ وتطبيق مشروع السودان الجديد، الأمر الذي تعذر بموته وانتصار المؤتمر الوطني في الانتخابات العامة مؤخراً. لقد قامت الحركة الشعبية بكثير من الأعمال لتحقيق الانفصال منذ وقت مبكر، بحيث لا تنتظر من ميقات إجراءات الاستفتاء إلا مشروعية شكلية ليس أكثر.. ولا يحتاج الراصد لكثير عناء في لفت الأنظار لتلك الأعمال والأنشطة الانفصالية للحركة الشعبية وحكومة الجنوب على النحو التالي: ü إعداد مسودة دستور الدولة الجنوبيةالجديدة بواسطة معهد ماكس بلانك الألماني. ü محاولة تخصيص كود دولي مستقل بالاتصالات الهاتفية بخلاف الكود القومي المعمول به في السودان. ü تغيير مناهج التعليم ولغته من العربية للإنجليزية. ü السعي لتوقيع اتفاقيات منفردة للتنقيب عن البترول. ü دراسة مشروع خط السكة حديد للربط بين كينيا والجنوب. ü تكملة الترسانة العسكرية وبناء جيش جنوبي كامل التسليح بما في ذلك الطيران العسكري. ü المطالبة برفع الحظر الاقتصادي الأمريكي عن الجنوب واستثناء الشمال. ü منع الأجهزة الاتحادية من مهامها السيادية في الجنوب وفق الاتفاقية ومنع تحصيل الموارد القومية كالضرائب والجمارك والزكاة وخلافه. ü احتضان حركات دارفور المسلحة بتوفير الدعم والتسليح والملاذات الآمنة بالإيواء والتدريب والعلاج. ü عقد عدد من الاتفاقيات مع دول الجوار «كينيا - يوغندا» دون عرضها على الأجهزة الاتحادية، والتحرك الخارجي عبر مكاتب الحركة الشعبية خارج الإطار الدبلوماسي الرسمي. ü قيادة حملات واسعة على مستوى الدول الكبرى ودول الجوار لحشد التأييد والاعتراف بالدولة الجديدة حال الانفصال. ü قيادة وتنظيم الحملات والمسيرات التعبوية الداعية للانفصال وسط أبناء الجنوب بكافة الوسائل الإعلامية. ü تفريغ الشمال من أبناء الجنوب وترحيلهم للتسجيل، وبالتالي الاقتراع لتقرير المصير داخل جنوب السودان. ü وأخيراً وليس آخراً إلغاء الدورة المدرسية القومية بقرار وزاري إقليمي من طرف واحد، بالرغم من أنها دورة قومية تقررت بأمر سيادي رئاسي!! وذلك بعد استلام آخر جنيه من ميزانية البنيات التحتية والتسيير والمناشط وكافة الاحتياجات. أما المؤتمر الوطني فقد أفاق مؤخراً من حلم الرهان الخاسر مع «عدوه الشريك» فيما يسمى «بالوحدة الجاذبة» إلى يقين الانفصال الواقع ليصوب الجهد فيما تبقى لتكون عملية فصل التوأم بأعلى درجات النجاح، لينتج عنها دولة غير عدائية ما أمكن وألا ينهار بناء السلام الهش وألا تعود البلاد القهقري الى مربع الحرب اللعينة. إن أحلام الوحدة الوردية التي كانت تشغل كل حيز المخيلة السياسية للمؤتمر الوطني حجبت عنه رؤية ما أحصينا من مسوغات وإجراءات الانفصال المبكر للجنوب، وبالتالي فات على المؤتمر الوطني أن يغير خطة اللعب ويستخدم كل الكروت المتاحة في الوقت الأصلي للمباراة.. فقد كان بإمكان المؤتمر الوطني والحكومة الاتحادية عدم التساهل في السيادة الاتحادية على حكومة الجنوب الإقليمية فيمنع إهدار الموارد القومية بحراسة الإيرادات وضبط التحويلات ومنع التجاوزات الإجرائية غير القانونية للحركة الشعبية وحكومة الجنوب، بل كان في إمكان المؤتمر الوطني الشريك الأساسي في اتفاقية السلام أن يقلب الطاولة في رؤوس الجميع وإلغاء نيفاشا، بعد أن خرقت الحركةالشعبية الشريك الآخر عشرات البنود بلا تردد أو حياء وبعد أن استبانت خيوط المؤامرة الدولية وراء الانفصال والسعي لتفتيت البلاد والتآمر على الإسلام وأخلاق الأمة، وبات الانفصال واقعاً بحتمية التزوير كما فعل بالانتخابات العامة بجنوب السودان. إن الاصل في الدين «الجهاد» ونشر عقيدة التوحيد وليس «الهدنة» أو الاتفاقيات التي لا تُقدس حينما ينقضها أطرافها، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود بني قريظة ومع قريش بعد صلح الحديبية.. أما الأحزاب السودانية والقوى السياسية الأخرى فليس في إمكانها التنصل عن مسؤوليتها التأريخية فيما يجرى الآن، فإن قيادات هذه الأحزاب في البرلمان الأول عند الاستقلال منعت الجنوبيين من قيام نظام فدرالي يحفظ للجنوب خصوصيته كشرط دخلوا به مشروع التصويت على استقلال السودان ثم منعت نظام التمييز الإيجابي لاستيعابهم بالخدمة المدنية.. كما أن هذه الأحزاب قد أنشأت «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي ساهم في الدعم السياسي والعسكري المباشر للحركة الشعبية المتمردة ضد الإنقاذ، ثم تحول إلى تحالف سياسي داعم لكل تجاوزات الحركة الشعبية بعد الاتفاقية بهدف تغيير النظام، هذا فضلاً عن موافقة كل الأحزاب الشمالية الكبرى على حق تقرير المصير بمؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995م فلماذا إذن البكاء على اللبن المسكوب؟.