كلما يأتي شهر رمضان تعود بي الذاكرة إلى سنوات وسنوات وفي مواقع مختلفة من الوطن.. وقد كانت طبعة مهنتنا أن نتنقل من موقع إلى آخر.. فعلقت بذهننا ذكريات مناطق جلاس وكريمة ومروي دنقلا والدبة والأبيض ثم الخرطوم، وسوف أتناول في كل مرة جزءاً من تلك الذكريات، فالضابط الإداري كالكشكول تتجمع في شخصه الكثير من الأحداث والذكريات، وبدءاً بذكرى الطفولة والشباب على رحال جلاس والأركي في ظلال جبل كنكاكول تفتحت شخصيتنا، ورمضان في تلك البقاع وفي تلك الأزمان صورة مطبوعة في أعماق نفوسنا وأذكر أن رمضان كان يأتي مع بداية نضج البلح .. فكانت مهمتنا قبل الإفطار أن نأتي بأنواع من البلح الرطب من النخيل إلى مكان الإفطار مباشرة والرطب أنواع متعددة فهناك (الكرتيق) الذي يسيل كالعسل والكرشة ثم المدين وود لقاي وأخيراً البركاوي وهو غير مرغوب كرطب لكنه يتفوق تجارياً.. ولكل نوع من هذه الأنواع مذاق خاص ولكل شخص من الجالسين على برش الإفطار نوع مفضل. ثم دارت الأيام وتخرجنا وعملت ضابطاً إدارياً، وجاءت بي الظروف إلى نفس المنطقة ورغم أن العادات متشابهة في كل المنطقة، لكن ما ظل متطلباً في نفس تلك السنوات هي تلك اللحظات التي كنت أتناول فيها الإفطار مع العارف بالله الشيخ نور الدائم العجيمي.. فقد كان للإفطار معه نكهة خاصة.. فعندما يدعونا له نجد مطايب الأطعمة.. لكنه هو شخصياً يجلس مابيننا على عنقريب صغير وأمامه قليل من البليلة والبلح والماء وقليل من النشا، ورغم دعوتي للطعام الفاخر إلا أنني كنت أفضل أن أتناول معه تلك الوجبة البسيطة، وقد اكتشفت أن ذلك ممتعاً ومريحاً للمعدة ويساعد على تحمل الصيام، أنها أيام لا تنسى في أمسيات البرصة وطلال جبل كنكاكول عند الأصيل والناس في انتظار آذان المغرب .. رحم الله مولانا السيد نور الدائم العجيمي وتقبله مع الصديقين والشهداء. ومن ذكريات تلك الأيام أن هناك شخصيات متعددة تطبع في الذهن لصفات تتصف بها، ومن أولئك المرحوم عبد السخي سعيد الذي وافاه الأجل المحتوم هذا الاسبوع وهو من الشخصيات العامة التي اكتسبت حب الناس، لذا كان مأتمه به مواكب من الناس لم نشهد لها مثيلاً، فقد تحركت جموع أهل المنطقة بمناطق جلاس وما جاورها بالولاية الشمالية صوب الخرطوم فكانت حشود فاقت كل تصور، كان المرحوم عبد السخي شخصية عامة نذر نفسه لخدمة المجموعة.. وكان قيادياً في كل مهنة وناجحاً في كل عمل يقْدم عليه. وعندما حل به الكبر فضل الانتقال للخرطوم، ليكون بجانب أبنائه بمنطقة الأزهري وأسس زاوية للصلاة والعبادة وأصبح راعياً لها وعابداً فيها.. ألا رحم الله عبد السخي سعيد الذي لاقى ربه في هذا الشهر الفضيل، وفي ليلة الجمعة منه، (إنا لله وإنا اليه راجعون).