لفت نظري اصطفاف عشرات الأطباء بفندق القراند هوليداي فيلا الأحد الماضي، ليس لتقديم خدمات للمرضى في يوم صحي مجاني، ولكن لانتظار دورهم في المعاينات التي تجريها وزارة الصحة السعودية لأقل من 250 وظيفة، لاستقدام أطباء وكوادر للعمل بقطاعهم الصحي، ومالفت انتباهي أكثر وجود 6 وكالات سفر وامتلاء الكراسي لليوم التالي رغم توافد الأطباء الذين يحملون ملفاتهم من مختلف التخصصات حيث يتقدمهم الاستشاريون قبل الاختصاصيين والعموميين. كيف للسلطات أن تفرط في أطباء أقل مانوصفهم بالمميزين، حيث يمضي الاستشاري فترة 8 سنوات على الاقل ليكتسب الصفة، بينما يمكث الاختصاصي نصف المدة لينال كلمة اختصاصي بجانب اسمه. سياسة استبقاء الكوادر أضحت أكذوبة يعجز عن تصديقها البسطاء، فالجهات المعنية فشلت في ابقائهم على وظائفهم والشاهد على ذلك النزيف المستمر لهم وتشجيعهم على الهجرة. بعض الجهات لا تتعدى نظرتها لهجرتم سوى أنها مصدر لتدفق الأموال من تحاويل ومسميات أخرى من ضرائب وجبايات يتم فرضها عليهم. حدثتني إحدى الطبيبات عن بدايتها للامتياز في العام 2003م براتب 500 جنيه بجانب الحوافز التي تساوي الراتب، ووقتها كان يعادل أكثر من 250 دولار، والآن تتقاضى 1800 جنيهاً وهي حوالي 150 دولاراً، مما يوضح أن الراتب في حالة نقصان مع ارتفاع الدولار والتضخم بالبلاد، وخلاف سنوات خدمتها فهي في الدرجة الخامسة وفي طريقها إلى الرابعة، وقالت إن ما تتقاضاه في شهر بالخارج يعادل راتب عام بالداخل، وهذا ما يحفزهم للخروج بجانب المضايقات والمكايدات التي دخل فيها الجانب السياسي.الملاحظ أن وزارة الصحة السعودية تعرف مدى قيمة الأطباء والكوادر السودانية وسد حاجتها من خيرتهم، وإلا لما ظلت تتهافت عليهم بهذه الكيفية التي أصبحت تتكرر كل شهرين، في ظاهرة لم تحدث في عهد الحكومات السابقة. وفي المقابل لم يدرك القائمون على أمر الصحة أهمية الكادر الوطني الذي أصبح محط أنظار الدول المتقدمة ومفخرة لهم، إذ يقدمونهم بالمؤتمرات العلمية والبحوث. صراحة وجدت لهم العذر فكيف لطبيب الامتياز الجلوس بالمنزل لاشهر أو لعام في انتظار الوظيفة المزعومة، بينما يعيش طبيب الخدمة الوطنية على ال(50) جنيهاً في الشهر رغم ما يبذله من جهد، وفي بعض الأحيان لا يتحصل عليها، لتبدأ مرارة البحث عن وظيفة عقب انقضاء المدة في مستشفياتنا التي تعاني التردي البيئي بشهاده المسؤولين أنفسهم، لترفع وزارة الصحة الاتحادية يدها إلا بشح عن الوظائف التي لا تكاد تذكر، وفي حالتي التوظيف أو عدمه تزداد فصول المعاناة ليقوم الطبيب المتطلع للترقي لمرحلة الاختصاصي عقب اجتياز امتحان الجزء الأول المؤهل لما يعرف ب(الروتيشن) بدفع مبلغ 10 آلاف جنيه للعام الواحد لخزينة الدولة جراء تدريبه في وقت لا يتقاضى فيه أي راتب ورغم ذلك يضطر للمبيت بالمستشفى وتقع على عاتقه الكثير من المسؤوليات باعتباره نائباً للاختصاصي ومسؤولاً عن أطباء الامتياز واي مريض في وحدته، مقابل حافز يأخذه من المستشفى التي يتم بها توزيعه وأحياناً لا يتعدى ال(100) جنيه، ليجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر.. إما الوقوف أمام ولي الأمر وأخذ المصروف والانتباه للدراسة أو إهمالها واتباع ما يعرف ب(البنغلة) وهو العمل باكثر من مستشفى لتغطية ما تطلبه الدولة، وما يحتاجه من مصاريف، لتستمر معاناة التوظيف مثل (ساقية جحا). المتابع للراهن يجد أن العديد من الاطباء تركوا المجال وتوجهوا للعمل السياسي أبرزهم وزير الخارجية بروفيسور ابراهيم غندور، السفير مصطفى عثمان اسماعيل، على الحاج، المرحوم مجذوب الخليفة، مطرف صديق، وخلافهم من الذين عجزوا عن حماية مصالح زملائهم من زمرة الأطباء، وأسسوا لأنفسهم مجداً بعيداً عن التنقل بين العنابر إن جاز التعبير، حيث ملأت أسماؤهم الوسائط والميديا متنقلين من موقع ومنصب لآخر، في وقت يتنقل رصفائهم من وقفة احتجاجية لأخرى آملين أن يجدوا آذاناً صاغية لا لتحسين أوضاعهم ولكن للبيئة التي يعملون فيها. السياسات الخاطئة أو التي لم يتم تطبيقها على الطريقة الصحيحة، جعلت الكثيرين يجوبون المستشفيات بحثاً عن الخدمة من فحوصات وتشخيص وغرف عناية مكثفة، كما تسببت في تكدس المرضى بمستشفيات دوناً عن الأخرى، وصورت ذات السياسات الطبيب بأشكال مختلفة جعلت منه صاحب أجندة يتم طرده مثله مثل اي عامل بأحد المحال التجارية، بل أصبح متنفساً لكل شخص غاضب من السلطات ل(يفش الغبينة) بالضرب أو الاعتداء الجسدي واللفظي أو باطلاق النار، وكل ما يحدث له لا لشيء سوى أن موقعه يحتم عليه تجاهل فشل الجهات المعنية في تحسين البيئة وتوفير كل ما يحتاجه المرضى، لصنع واقع أفضل لمريض يعاني الفقر والمرض هاجر من اقاصي القرى لهثاً وراء تشخيص أو علاج، فالواقع يتطلب مراجعة السياسات الصحية وتصحيح الخارطة لينعم الشعب بمستقبل أزهى وانضر. لوهلة انتابني شعور بالغثيان من حظهم خاصة عند إعلان أحدهم بفناء الفندق انتهاء الفرص وتوجيههم بالمعاودة بعد شهرين، وكان هذا اشبه بحفل توزيع (كرتونة الصائم)، لكن فرحة الممنين أنفسهم بالبحث عن ملاذ آمن وحياه عملية وعلمية أفضل غابت عن المشهد. صدى أخير: ترى هل ستتم معالجة أوضاعهم أم سيأتي يوم لا نجد فيه من يعالج أوجاعنا؟!.