يهود السودان: اعتقد أنه لا أحد ينسى يهود السودان، الذين عاشوا بين ظهرانينا، وكان لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، عاشوا، بل انصهروا في المجتمع السوداني، حتى أن البعض بدلوا يهوديتهم بالمسيحية أو الإسلام، وعندما بدأت مدرساً لمادة الدراسات السودانية في جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، وطالبت الطلاب بكتابة أبحاث سودانية، اختار عدد من الطلاب والطالبات أن يكتبوا لي عن يهود السودان، وكان مرجعهم ما كتبه شوقي بدري، وما ترجمه مكي أبو قرجة من كتاب أطفال يعقوب في بقعة المهدي، حوالي خمسة عشر طالباً من مائتين كتبوا في هذا الموضوع من وحي ما كتبت في كتابي السودان أبو الدنيا، مستفيداً بالمرجعين السابقين. وأثارت بعض الأبحاث سؤالاً حول غزال المسالمة، هو قبطي أم يهودي؟.. لأن الجمال عند كليهما، كنت اعتقد لزمن طويل أن غزال المسالمة قبطي، ولكن وجدت من يقول ربما يكون هذا الغزال يهودياً، فلقد استقر بعض اليهود في المسالمة، وهم طبعاً عندهم بياض في مذاق بيتي خاص، يغشاه خط الاستواء بطقسه الحار، ويضربه هواء النيل الخالد، لقد اضطروا للسكنى في أم درمان، عندما خلت دنيا السودان من الخرطوم أيام المهدية لمدة ثلاث عشرة سنة من 1885م إلى 1898م، وذلك لاستحالة العيش في موقع آخر غير السودان، ولقد حملوا اسم يهود السودان في أي موقع عاشوا فيه حتى خارج السودان، ومن حي العرب المجاور لحي المسالمة، كتب الشاعر عبد الرحمن الريح يقول: لي في المسالمة غزال نافر بغني عليهو وغنى هذه الأغنية أول من غناها الفاضل أحمد، من حي الأمراء، وبهذا صار الغزال متمتعاً بثلاثة أحياء في أم درمان العتيقة. ولقد تغنى بجمال القبائل القبطية واليهودية واليونانية كثيرون، وعند خليل فرح قصيدة عصماء يصف فيها فتاة إغريقية تقول: فوق جناين الشاطي وبين قصور الروم حي زهرة روما وابكي يا مغروم وأيضاً كتب صلاح أحمد إبراهيم قصيدة يا ماريا، وهذه أيضاً فتاة من اليونان، وصل والدها إلى السودان عام 1920م، وكان يعمل بالجيش الإنجليزي حتى تقاعد بالمعاش، عاشوا في أم درمان، وكانت ماريا بارعة الجمال، وقد غنى حمد الريح قصيدة يا مارياً التي تقول: ليت لي أزميل فدياس وروحاً عبقرية وأمامي تل مرمر لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالاً لا مكبر وجعلت الشعر كالشلال بعض يلزم الكتف، وبعض يتبعثر وعلى الأجفان لغز لا يفسر وعلى الخدين نور يتكسر وعلى الأسنان سكر وفماً كالأسد الجوعان زمجر وفي نفس السياق يذكر لنا مكي أبو قرجة، في كتاب أصوات في الثقافة السودانية، ما كتبه الزعيم محمد أحمد محجوب، رئيس الوزراء في السودان، في كتابه «موت دنيا» وهو يصف جمال امرأة يونانية حسناء هي بائعة الكتب في مكتبة سودان بوكشوب، ويقول: يونانية حسناء، في ريعان الشباب، ممتلئة أنوثة وحناناً، ساهمة النظرات، على وجهها سيماء حزن خفي حاولت كثيراً أن أدرك كنهه، ولكنني لم استطع فك رموزه، وخصلات شعرها المرسلة الطليقة، يداعبها النسيم وهي تسوي ذلك الشعر مكانه بيد كلها الفتنة. أما يهود السودان فقد اضطروا لمغادرة المكان، بعد احتلال إسرائيل لفلسطين وحرب 1948م، ولكن السودان ظل باقياً في قلوبهم، وكانوا في أي موقع يرحبون بأي مواطن سوداني، وعندما زار شوقي بدري المواطن السوداني فلسطينالمحتلة، استقبله يهود تل أبيب بكثير من الترحاب، وبالغوا في إكرامه والاحتفاء بمقدمه، ورفض أصحاب المطاعم أن يتقاضوا قيمة ما يتناوله من وجبات، وصار ضيفاً على الفندق كل الأوقات، وكان يهود السودان يقولون له: أنتم السودانيون خيرة الرجال، ولقد جاء إلياهو سالمون ملكاً، وهو من يهود السودان، جاء من تل أبيب لحضور حفل تأبين المحامي حاج الشيخ، وقال إنه يعتز بذكرى الوطن الذي عاش فيه، وينعى هذا الرمز من رموز المجتمع السوداني، ظل يهود السودان في ميراث الاحتفاظ بالخصوصية السودانية، وقالوا عن السودانيين: أنتم خير الرجال، يؤكد أن سوداننا زمن من زمان وحتى الآن وبعد الآن.