تتقاصر المفردة وتتقازم أمام شخصية نحاول أن نكتب عنها اليوم تخليداً لذكراه الثالثة عشرة، بعد أن وضع بصمته في خارطة الشعر العربي الفصيح في السودان والوطن العربي، ومن المفارقات أن شاعرنا حاول والده- الذي كان كان يعمل قاضياً وشيخ خلوة في أورطة العرب الشرقية بالقضارف(مكة شابك)- مراراً وتكراراً عن إثنائه عن ارتياد التعليم الحديث وحصر تعليمة فقط في الخلوة، إلا أنه كان له رأي آخر رغم احترام رغبته، فكان كثير الارتياد لبعض المكتبات التي كانت في المدينة التي ولد فيها على قلتها في ذلك الوقت، وبعض مجهودات جبارة من قبل أصدقاء والده استطاع الحصول على الموافقة بدراسة التعليم الحديث، إنه الشاعر الكبير محمد عثمان كجراي، الذي ولد بالقضارف في العام 1928م، وحفظ القرآن بخلوة والده والتحق بعد ذلك بمعهد أم درمان العلمي ثم معهد بخت الرضا. بداياته الشعرية: كانت بدايات كجراي الشعرية في العام 1954م وأول ديوان شعر طبع له كان في العام 1962م تحت عنوان (الصمت والرماد والذي طبع بيروت، والليل عبر غابة النيون) التدريس: عمل كجراي معلماً في عدد من مدارس البلاد المختلفة، وكانت بداياته بمسقط رأسه بالقضارف بمدرسة الأميرية، ليتنقل بعدها لعدد من مناطق السودان، رغم أنه لم يعمل بالتدريس فور تخرجه فقد مارس التجارة في المناطق الحدودية في قرية تسمى مهلة بالقضارف، واستطاع أن يؤسس له (دكاناً) ولكن تم حرق (الدكان) من قبل قوات الانجليز بحجة أن سكانها كانوا يهربون الأسلحة عبر الحدود الحبشية مع السودان التي كانت تشكل خطراً على الوجود البريطاني في المنطقة ويمارسون الصيد غير المشروع، فاحترق المتجر مع بقية منازل ومحال القرية، واضطر كجراي إلى العودة إلى مدينة القضارف للإقامة فيها، وتقدم بطلب إلى مفتش التعليم فيها ليعمل في وظيفة مساعد مدرس، وبالفعل تم قبول طلبه وأرسل إلى معهد بخت الرضا للتأهل وتخرج فيه ليعمل معلماً بمصلحة المعارف السودانية آنذاك، وينتقل بين المدارس الوسطى والثانوية المختلفة في السودان أستاذاً يدرس اللغة العربية. زواجه: تجول كجراي في معظم مناطق السودان شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، مما كانت لها تأثير كبير على شخصيته لاختلاف ثقافات كل بيئة- بحسب حديث ابنه الدكتور بدر الدين محمد عثمان كجراي- الابن الثاني في الترتيب لشاعرنا الذي له ستة من البنين والبنات أكبرهم سناً نايلة، ويليها بدر الدين ثم عادل وزاهر وسميرة، وكان زواجه من داخل الأسرة، حيث تزوج عائشة حامد حسن وهي ابنة عمه، والتي ما تزال تتمتع بالصحة والعافية، واستقر الترحال بالأسرة في ولاية كسلا بحي الترعة شمال، بعد التنقلات الكثيرة بسبب طبيعة عمل والدهم، ولكن رغم أن أبنائه الستة لم يكن من بينهم من حاول كتابة الشعر، إلا أن ثلاثة منهم ساروا على خطى والدهم في التدريس بعد فشلهم في مجاراته في مجال الأدب. تنكر وإهمال: ومن الأشياء التي لم ترَ النور بحسب ابنه بدر الدين الذي تحدث ل(آخر لحظة) إن والده كانت له كتابات عن الأطفال، ولكنها لم تنشر وتروج، كما وجدت بقية أعماله الأخرى، رغم طباعة أربعة دواوين من أشعاره والتي تسعى الأسرة لجمعها في مجلد واحد. محطة الجنوب: نقل كجراي للعمل في الجنوب متنقلاً من مدارس أويل وواو، وهي التي التقى فيها بالفنان الكبير محمد وردي، ورغم معرفتهم ببعضهم البعض في السابق أثناء فترة التدريب بمعهد التربية بشندي، إلا أن تلك المرة كانت مختلفة، حيث كتب فيها كجراي لوردي الأغنية المعروفة (مافي داعي) والتي كانت بداية صداقة حقيقية بين كجراي ووردي ولم يقف مشوار الرجلين عند ذاك الحد، حيث أردفه كجراي بأغنية (تاجوج )، وثالثة تسمى (بسمة الزمبق )، ووفاء لتلك الآصرة النبيلة أطلق وردي البوماً غنائياً في مطلع الألفية الجديدة أطلق عليه (مافي داعي) إهداءً لروح كجراي، بجانب وردي تعاون مع عدد من الفنانين منهم ابراهيم حسين، الذي كتب له عدداً من الأغنيات المعروفة، إلا أن المفارقة أن كجراي لم يكن يرغب في انتشار أغنية ( قالو الزمن قدار يا نسمة النوار)، التي كتبها في العام 1962 ولكنه تفاجأ بسماعه الأغنية في الإذاعة وقد تغنى بها ابراهيم حسين لدرجة أعجبت كجراي نفسه لاحقاً، الذي كان معترضاًعليها في البداية. شهرة خارجية: يعتبر كجراي من أكثر الشعراء الذين نشر لهم خارجياً، حيث نشرت له العديد من الأعمال في مجلة الدوحةالقطرية، والمنتدى القطرية، والعربي الكويتي.. مما اكسبته شهرة خارجياً وداخلياً، نتيجة لشغف الناس في قراءة الكتب والمجلات في ذلك الوقت، مما انعكس ذلك لاحقاً عندما طبعت دولة قطر ديوانه« في مرايا الحقول» وأول قصيدة نشرت له على مستوى الوطن العربي كانت بمجلة «الرائد» الكويتية بعنوان: السأم والأحلام الميتة، في عام 1957م . الانتقال لارتريا بعد التقاعد عن العمل سافر الى منفاه الاختياري بالعاصمة الارترية اسمرا في اواخر العام 1989م، والتي كان كثيراً ما يكتب عنها في أشعاره مناصراً للثورة الارترية، وهناك قام بوضع منهج باللغة العربية للتدريس في مدارس الجاليات العربية. الرحيل المر: في صباح الثامن من أغسطس من العام 2003م، انتقل شاعرنا الفذ محمد عثمان كجراي بمدينة كسلا، وتم مواراة جثمانه بمقابر الحسن والحسين لتتعاظم المصائب على الولاية في ذلك العام، حيث أن انتقال كجراي كان في نفس العام الذي أغرق فيه القاش المدينة، لتنطوي بذلك صحفة إحدى الشخصيات التي غيرت مسار الشعر العامودي، الذي كان سائداً في الوطن العربي الى الشعر الحر، قال عنها الفيتوري إنها وضعت أسس حركة الشعر العربي الحديث في السودان. قالو عنه: قال عنه عبد الله حامد الأمين (هذا شعر كجراي .. اتحدى من يجد فيه بيتاً غير موزون أو كلمة غير عربية) وقال فيه الشوش (كجراي شاعر رصين ارتبط شعره بقضية التحرر الوطني، وبالعروبة، والمبادئ والقيم النبيلة)، وقال عنه الشاعر صلاح أحمد إبراهيم(من احتذى حذو كجراي، جاء شعره مبرأ من كل عيوب وسقطات الشعرالحديث)، وقالت عنه دار النسق التي تولت طباعة ديوانه الأول، وعنوانه الليل عبر غابة النيون: (إننا نستمد حماسنا من النصوص المدهشة التي أمامنا. ونتساءل بدورنا عن سر الإهمال من قبل سكان الشرق وحكوماته في تنكرها له، حيث لم يؤرخ لاسمه في اي من الشوارع العريقة في المدن الثلاث، أو تسمية مسرح باسمه.