في الطابق السادس عشر بفندق عربي ورث أرض حدائق الحيوان، كان نجوم الصحافة السياسية يتوسطهم خزان المال في دولة على أبواب الانقسام يجتر بعضهم بأسى وحزن عميق الماضي القريب، ووزير المالية «علي محمود» يفتح حقيبة المالية من أجل الإجابة على سؤال يلح عليه الأستاذ عادل الباز.. كيف نواجه كشماليين استحقاق الانفصال وتبعات ذهاب بعض بترول السودان إلى الضفة الأخرى!! وكمال حسن بخيت ينظر إلى النافذة التي تطل على النيل ويتذكر أيام بغداد والرفاق الذين تناثروا ما بين توابيت حملتهم إلى أوطانهم وسجون ومعتقلات ومنافي بعيدة.. وكمال بخيت بروحه وسماحته وقلبه الذي أثقله بحب الناس، يقول لوزير المالية هل ستصبح «الكسرة» هي الحل وإنتاج السودان من القمح لا يتجاوز ال«40%» من الاستهلاك، والصادق الرزيقي يعانق مستشار وزير مالية دولة تشاد.. شاب في حيوية الثلاثين تبدت عليه النعمة من نعومة الوجه، درس في نيالا وكان مع الرزيقي «أخوان» في جماعة الأخوان فرقتهم سنوات ما بعد الثانوي، فأصبح الرجل في دولة تشاد له شأن، وللصادق الزريقي في تقسيم السودان لدولتين نصيب، يماثل نصيب الطيب مهدي في المقدار وعوض جادين الذي قال عنه الشيخ إبراهيم السنوسي «غلطاتك عندنا مغفورة لأنك من ثوار 1976م» الذين وسمهم إعلام مايو «بالمرتزقة»، يضحك عوض جادين لقصة وكيل ديوان الضرائب الفريق عبد الله حسن عيسى وهو يقول «ضرائب الصحافيين قبل ضرائب تسجيلات لاعبي القمة خاصة المريخ». الاقتصاد في الامتحان ü قال وزير المالية إن الارتفاع في أسعار السلع المستوردة يعود لارتفاع سعر الدولار وشحه في الأسواق والمناخ السالب لتداعيات الانفصال المرتقبة، حيث يعتقد الناس بأن العاشر من يناير القادم سيشهد أحداثاً كبيرة في وقت نحن «حساباتنا مضرية» جيداً، لن يتأثر الاقتصاد بالانفصال لدرجة الأزمة ولن يجوع الشعب السوداني.. ويقول وزير المالية للصحافيين اتخذنا حزمة تدابير وإجراءات لتقليل الصرف الحكومي، أوقفنا التوسع في المباني والأثاثات المستوردة من الخارج، والذي كانت فاتورته السنوية نحو «500» مليون دولار.. تم إيقاف استيراد الأحذية «15» مليون دولار، ولعب الأطفال «50» مليون دولار، والأسلحة الصغيرة مسدسات وغيرها «25» مليون دولار، والسيارات «450» مليون دولار.. كل هذه المبالغ كانت تذهب لجيوب قطاعات محدودة، والدولة من مال المساكين والفقراء تدعم دولارات الاستيراد على حساب أشياء أخرى ضرورية، ويضرب النور أحمد النور كفه بأخرى ويقول لوزير المالية.. هل العودة للكسرة هي الحل؟؟ الوزير يقول الآن سعر جوال الذرة انخفض لنحو 10% وتم فتج باب الصادر من الذرة لدول الخليج وسوريا واثيوبيا وأروبا، ووقعنا عقودات تصدير في وزارة التجارة بمليون طن من الذرة عائدها «250» مليون دولار أمريكي تعادل 25% من جملة الصادرات غير البترولية. والوزير عند البترول ينظر لمستشاره الجديد الصحافي النابه آدم الزبير، كأنه يقول هذا الحديث ليس للنشر ود. محي الدين تيتاوي رئيس اتحاد الصحفيين يهمس للوزير.. هل هناك مفاجأة في البترول.. نعم هناك مفاجأة من الأجدى أن لا نتحدث عنها في الوقت الراهن «دعونا» ننتظر نتائج الاستفتاء.. لكن المتاح الآن سينضم للأنتاج في جنوب كرد فان «40» ألف برميل في اليوم من حقل الفولة شرق، وهناك حقول تتحدث هي عن نفسها في أبريل القادم بأبو جابرة والمقدمة.. والمفاجأة في الذهب.. جاء للمالية مدير شركة أرياب التي تعمل في التعدين بشرق البلاد وقال إن كميات الحجارة التي لُفظت في السابق اُكتشف وجود أكثر من «10» طن من الذهب في جوفها، وقدم الفرنسيون عرضاً لتمويل استخراجها لكننا رفضنا وقررنا تحمل نفقات التمويل من مواردنا!! سكر ودقيق فينا ü حينما كان شعار الإنقاذ «نأكل مما نزرع» لا يتجاوز استهلاك السودانيين من القمح ال «500» ألف طن، وبعد مرور أكثر من «20» عاماً لإعلان قيام الثورة الخضراء لا تزال «60%» من احتياجات البلاد من القمح يتم استيرادها من بلاد تموت من البرودة طماطمها وفولها وعدسها، وتبلغ الفجوة السنوية من القمح «700» ألف طن.. ومع ارتفاع سعر الدولار أضحت الأربعة رغيفات بجنيه واحد، والرغيفات الأربعة تكفي الشخص الواحد لوجبتي الفطور والغداء، بينما غالب سكان المدن ينامون على كوب من الشاي، حتى الفول «البوش» الذي كانت قلوب سكان المدن تهفو إليه مثل هفو المرضعات على الفطيم في الأمسيات الباردة، وخاصة في فصل الشتاء بيد أن «قدر الفول» أصابها الجفاف وضربها المحل وغادر ثلاثة أرباع الجنوبيين النازحين الخرطوم في رحلة أطلقوا عليها رحلة العودة للوطن.. لا يجد وزير المالية أمام حكومته غير خيارات محدودة جداً لإطعام السودانيين بالقمح الذي أصبح يمثل غالب قوت أهل المدن، بينما «الكسرة» والعصيدة تمثل غالب قوت أهل الريف الذين تتناقص أنصبتهم من الدعم الحكومي الذي يذهب للوقود ومزارعي الأرض المروية، بينما مزارعو الأراضي المطرية يستقبلون قرار فتح الموانئ لتصدير الذرة بالترحاب الحذر.. ونصف دار فور تأكل من الإغاثة، وكل الجنوب يعتمد على برنامج الغذاء العالمي في توزيع الدقيق مجاناً، بدعوى فضفاضة تقول إن الجنوبي ضحية للشمالي، فمن هو الضحية القادمة بعد ذهاب الجنوب لسبيله والذي قال وزير المالية إن 10% من المصروفات ستنخفض بانفصال الجنوب، لكن فرحة الوزير لن تدوم طويلاً، فالمناخ العام ملبَّد بالغيوم والسماء موعودة بالمطر في الصيف، وفي المأثور من تراث الشعب مقولة تنسب أحياناً للأحاديث وحيناً آخر للأئمة «إذا غضب الله على قوم أمطرهم صيفاً». والمطر في الصيف الذي يهلك المرعى، يهطل في شهر مارس أو أبريل، وفي هذه الشهور يتوقع السيد علي محمود انفراج الأوضاع وانقشاع الأزمات!! حكومة صغيرة لمهام كبيرة ü واقع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد وظلال الأزمة العالمية التي أرخت «بكلاكلها» علينا لن تغادر بلادنا في القريب المنظور، وحتى لا تقبر أحلام أطفال الدورة المدرسية في المستقبل كما تغنت بذلك الطالبات ليلة الأربعاء، فإن الحكومة وحزبها المؤتمر الوطني أكثر حاجة من ذي قبل لشجاعة في اتخاذ القرارات الصعبة لمواجهة استحقاقات أزمة المال بتقليل الصرف وخفض الإنفاق الحكومي لما دون ال«20%» وتقليص الجهاز التنفيذي الذي تمدد حتى ضاقت مقاعد مجلس الوزراء بالسادة أصحاب المقامات الرفيعة، وخلف كل وزير جيوش جرارة من موظفي الظل وسيارة «تأكل الوقود» كما تأكل النار الحطب ومكيفات غاز «تنوح» ليل نهار في المكاتب والبيوت الجديدة والأثاثات الفاخرة، والعلاج على حساب الشعب في المانيا والاتحاد السوفيتي وماليزيا، وليس الأردن أو مصر .. وحتى تخرج البلاد من نفق الأزمة المالية ما الذي يحول دون تجميع الوزارات الخدمية من صحة ورعاية اجتماعية في وزارة واحدة، والمالية والاستثمار والصناعة والتجارة في وزارة واحدة، بثلاثة وزراء دولة وإحالة المستشارين الذين يصعب على بعضهم لقاء الرئيس لأكثر من ثلاثة أشهر، إحالتهم للتقاعد الإجباري ومنحهم أوسمة وأنواط وخطابات شكر بإعفائهم من الأعباء الثقيلة التي كانت تقيد حركتهم.. فالإجراءات التي اتخذها وزير المالية منذ مجيئه إلى كرسي المال شملت إيقاف الامتيازات وضغط المصروفات، وإيقاف استيراد السلع غير الضرورية، مما أثار نحوه أصحاب المصالح، وإيقاف الصرف على بعض الإنشاءات، لكن تبقى «الكسرة» تمثل الحل الأمثل لتقليل مصروفات الأُسر وخفض الجهاز الحكومي واختيار حكومة صغيرة وفاعلة بمثابة فرض عين لوطن انقسم لدولتين، ولكنه يطمع في عيش كريم.. بجرعة دواء وماء قراح ومدرسة تستوعب التلاميذ والتلميذات، ولكن بعد «20» عاماً لا تزال شعارات نأكل مما نزرع حلماً بعيد المنال وأمنية في القلب والخاطر.