مرّة في كل عام تقريباً يشرفني الدكتور عبد النبي عبد الله الطيب النوبي، بتعليق على هذه النافِذة، ودائماً ما تأتي حروفه متسقة ومنسابه مع مناخاتي، لا سيما وأننا أصدقاء زمن ، يقال إنه جميل ، وهو كذلك بمقاييس ما نعيشه الآن ، وما تعيشه البُطانة أيضاً، والتي يهز خريفها هذا العام أعواد المحل ، وترتع في سهولها بت أم ساق مع البهم ،مع الطيور السابحات فوق زفير الريحان الياسمين. يقول البروف عبد النبي : انعم الله علي البطانة بخريف لم تشهد مثله في التاريخ القريب، الأمر الذي خلق حالة من الفرح تجعلنا نغني مع الصادق ود أمنة: «مكنة قلبي أمست بالغرام شغّالة / عيني تسقد النوم الكتير والالا / الخلّاني أصبِح كل يوم بي حالة / فراق أُم ريد ظبية شابلوك لوقالة»..رغم كل هذه الشاعرية ، وجمال الطبيعة وجمال النفس وروح التسامح التي ميزت إنسان البطانة وخلقت نوع من التماذج القومي الرائع، فما من بيت في البطانة إلا وهو مزيج من قبائل البطانة وخشوم بيوتها المختلفة مع احتفاظ الكل بروح قبيلته. رغم كل هذا ، فالبطانة الآن برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة، ففي منطقة الصباغ مشكلة بسبب تعدين الذهب، بالرغم مما جلبه تنقيب الذهب من خير على مناطق كثيرة في مختلف بقاع السودان وخارج السودان ، ولكن هناك تغييرات كبيرة تزحف نحو مجتمعاتنا تشكل خطراً على الصحة العامة وتهدد النسيج الاجتماعي. المشكلة الأكبر، الناتجة عن حراك التعدين هي التهديد البيئي الذي تخلفه عمليات التعدين الأهلي والحكومي، التي تستخدم مركبات كيميائية، من تلك المواد الزئبق الأحمر ، الذي يستخدم في معالجة ما أصبح يُعرف ب « الكرتة». وفي محاولة لتدارك الآثار المدمرة التي يسببها الاستخدام العشوائي لهذه المادة الخطرة ، على التربة والإنسان والنبات، ينشط شباب البطانة بإبعاد هذا التهديد من منطقتهم. أمر آخر يجعل البطانة غير البطانة التي نعرِف، هو التعدي الصارخ على أراضيها المملوكة بوثيقة تاريخية لأهلنا الشكرية ومن ساكنهم من قبائل. هذه الأرض أصبحت الآن تُوزَّع لأصحاب السطوة والجاه ، دون اعتبار لما يجره هكذا إجراء ، من مخاطر تهدد السلم والأمان، وتجعل من البطانة لاسمح الله دارفوراً أخري، تستعر فيها النار ولا مجير حينئذٍ. طبقة أخرى في برميل البارود ، هو ظاهرة النهب المسلح ، وهي ظاهرة دخيلة علي البطانة، فقد عاش أهل البطانة العمر كله وهم يستمتعون بخيرات أرضهم وأنعامهم ، لا يعكر صفو حياتهم إلا المحل وقلة الإمطار. وفجأة أصبح الناس يخشون على حياتهم قبل أنعامهم ، بسبب فئة متفلتة محددة ومعلومة بالاسم . إلا ان ما يُحيِّر أهل البطانة ، أنه و رغم تكرار حوادث السرقات التي أزهقت فيها الأرواح وسُرقت فيها الأموال .. لا بوادر للحل الآن ترتفع الأصوات ، ..مهدد آخر ، هو ما أصبح يُعرَف بتجارة البشر، وهو ترحيل العابرين من دول الجوار، وعلى عينك يا تاجر، إلى دول أُخرى..علينا أن نأخذ في الحسبان ، ما يشهده القرن الأفريقي بشكل عام من توترات، بدأت تطل برأسها في اثيوبيا، ما قد يجعل من أرض البطانة هي الضحية التالية ..لاحظوا، أن برميل البارود هذا لم يشمل، أي مطالبات بالخدمات من تعليم وصحة وماء وكهرباء، فهذه عند أهل البطانة يرجون فيها ثواب صبرهم ، من الخالق جلى وعلا. وقبل أن نختم، ننشد مع العاقب ود موسى: « نِحنَ سهمنا دائماً في المصارف عَالي/ نِحنَ العِندَنا الخلق البِتاسْع التّالي/ نِحنَ اللّي المِحَن بنشيلا ما بِنْبَالي/ نَلوك مُرّهِنْ لامنْ يَجِينا الحَالِي».