أسهم الصراع ، أو الجدال بين طرفي النخبة- الفقهاء والأولياء- خلال عهد السلطنة الزرقاء، في إثراء المعرفة، وأضاء عتمة الكثير من القضايا الإجتماعية، من حيث أن العقيدة الدينية الجديدة، التي اتخذتها السلطنة هادياً ومرشداً، كانت في عمومياتها رؤية تاريخية، شكلت الحلم بالمستقبل، على اعتبار أن الأفكار الصوفية التي تحتويها، كانت متطورة بالقياس إلى معارف المجتمع وأنماط تدينه البدائي. يكفي أن تلك الأفكار الصوفية، كانت رؤية تحظى فروعها وأصولها بالتدوين.. يكفي أن التصوف منذ بداياته السحيقة، قدم مجتمعاً مُنظّماً يندرج أتباعه تحت تباعة شيخٍ لا يكف عن تغذيتهم مادياً وروحياً، ويتدرب حيرانه داخل الوعاء على نظام تعبدي وسلوكي يومي، يضاف إليه تجسيد مسألة الثواب والعقاب تحت رقابة الشيخ المباشرة.. ويكفي أيضاً أن للتصوف ذاكرة حية في القرآن، في مقابل ثقافة المجتمع الموغلة في الشفاهة، يُضاف إلى كل ذلك، ما تخلِّفه أقوال مشائخ الطريق، من تأثير عميق في نفوس العامة الذين يتلقون المنقول عن ألسنة مشايخهم، عبر مجالس الحكائين، التي تضيف الكثير من عناصر التأثير على تلك الأقوال، وتحمّلها الكثير من مضامين الثقافة التي استقر عليها الوعي الجمعي، فالحكاءون، الذين كانوا أعمدة للدعاية وبث الوعي في ذلك الزمان، كانت لهم ثوابت من أعراف وتقاليد مجتمعية، لا يزيغون عنها، لأن تلك الثوابت، كانت تشكل قاعدة الالتقاء بينهم وبين آذان المتلقين. تهيأ لنخبة الماضي، من صوفية وفقهاء، قراءة الدين كمطلوب جماهيري، وتلمست كذلك طاقة ذلك المجتمع على استيعاب نصوصه، فقدمت له ما يطيق من معارف، كان لتلك النخبة القدرة على أن تقرأ المجتمع والدين كشيء واحد، فتعافت إلى حد ما من أزمات النخبة المعاصرة حين فرقت بين الدين والواقع.. بمعنى آخر، لقد تصدى أعلام من ذلك العصر، لمعالجة بعض النصوص، حتى تتواءم مع الواقع، مثال ذلك ما سطره ود ضيف الله من مضامين الرسائل المتبادلة بين الشيخ دفع الله، والشيخ محمد حلاوي، حول (شرح) أو تأويل المدونة وشرحها.. أنظر : الطبقات، ص174.. وهناك أيضاً، اجتهادات الشيخ صغيرون الشقلاوي وفتاويه، التي كانت بمثابة قراءة متفردة لنصوص تؤْخذ نصوصاً قطعية الآن.. من ذلك أنه كان يعمل على (رد المطلقة ثلاثاً إلى زوجها من غير محلل)، بينما كان الشيخ عبدالقادر بن الشيخ إدريس، ينكر عليه ذلك قائلاً: (جميع الناس تسويهم أولاد زنا)؟..أنظر: الطبقات، ص237. في هذه الأمثلة وغيرها، يتبدى بوضوح أن بعض أفراد نخبة السلطنة كانوا يأخذون بزمام المبادرة، بانتهاج الإجتهاد الفردي في التأويل والتعريف، ما أمكن، بشريعة الأحوال الشخصية، والأخذ بجوهرها لا بنصوصها المدونة في مذاهب الفقه. ولا يُخفى أن الصراع بين نخبة ذلك العصر، لم يكن يخلو من نرجسية الذات وإشهار سيف الضلاعة في الحفظ والاستظهار والمبارزة بالنص، والتمترس عند رؤى الأشياخ، إلخ.. هذا مع دخول الصراع أحياناً عتمة التكفير واتهامات الخروج على الملة، لقد تخفى مظاهر الإنسجام داخل الكيان الصوفي، تمايزاً وتنافساً يفضي إلى المنازلة، فكل طريقة صوفية ترى أنها الأمثل، وأن شيخها هو(ختم الولاية) الوارث للجناب المحمدي وصاحب المدد المتصل.. كان الصراع داخل الكيان الصوفي قدر تاريخي حتمي، لا سيما وأن الطرق وفدت إلى السودان في زمان قبلي، فكان لها حظ غير يسير من صراعات ذلك الزمان، لكن الصراع بين الصوفية له خصوصية ومذاق، لتجذر الفكر الصوفي على ثنائية الخلق والنفس الموزعة بين النفخ والطين.. فإذا كان الصراع بين البشر وداخل الفرد تغلب عليه غريزة التملك، فإن الصراع الصوفي هو صراع دقيق، ورحلة انتقال النفس في مدارج الروحانية.. نواصل..