لاتقاء الشرور النّاتجة عن ذلك الهدير الفجّ، لجأ الأهالي في حلفا إلى حيلة لمواجهة التنظيم، بتنصيب محسوبهم (هاج مهمّد) مندوباً عنهم، داخِل مؤسسة ثورة الإنقاذ الوطني، رضوخاً للأمر الواقع، وأملاً في رعاية مصالحهم، وللحصول على امتيازات التّماهي مع دعاية الأسلمة، قدر الإمكان. أطلق النوبيون على هاج مهمّد/هاج مهمّد، لقب مندوبهم السّامي تندُّراً، أمّا هاج مهمّد، الذي جيئ به إلى ذلك المنصِب اضطراراً، فلم يخيب ظنّهم، لأنه وبعد عدة زيارات للمركز العام للحزب الحاكم، تغيّرت ملامحه، وفاق لمعة التأصيليين إلى ما ورائها، وبدأ يتنصّل حتى عن لغته الأُم الرُّطانة التى استبدلها بالتقعيدات الإنقاذية المعروفة. هنا أطبقت الحيرة على أهالي حلفا، وقلّتْ حيلتهم في الفكاك من تلك الورطة التي وقعوا فيها، في النهاية حيعملوا إيه يعني؟.. لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، فركنوا إلى أن الصّمت هو خير سبيل للمقاومة، لأن بلوى هاج مهمّد كانت أفضل من توليف بديل كيزاني جديد، قالوا لأنفسهم: طالما الإنقاذ لم تسقط حتى الآن، فأفضل لمندوبهم السّامي أن يسوط معهم، بدلاً من تلويث وإزهاق روح أخرى! ويبدو أن هاج مهمّد، أدرك أهمية وجوده داخل التنظيم، واستشعر صعوبة تبديله بعنصر آخر ينال رضا المركز، ادرك هذا فأوغل في السُّوَاطة، فكان كلمّا صعدَ إلى المنبر، يذكِّر أهله النّوبيين، بالجنّة و بالنّار، ويحذرهم من الخروج عن عصّا الطّاعة. كان يُخطّئهم ويصب عليهم غضب الثورة، يميل بهم نحو مُنجزاتها، ويذكرهم بما يسميه (هذا النعيم الذي تعيشون فيه)، وكلما اشتدت الضائقة المعيشية، أو ظهر فى الأفق ما يُعكّر الأجواء السياسية أو العسكرية، كان هاج مهمّد، يصعد إلى المايكرفون، ويستخرِج لهم مَكَنة التمكين مِنْ غِمدِها، ويُحدِّثهم بالبُشريات (القريبة إن شاء الله)، وعن الابتلاءات التي يُمتحَن بها المؤمنون، داعياً لهم بالتزام الصبر، واحتمال الأذى ولا ينسى ناس زمان، قائِلاً لهم: (ناس زمان، كانوا يربطون الحجر على بطونهم) وعندما يغريه الإصغاء، كان يتجاوز نظرات الاحتجاج الحارِقة، بفتح النّار أكثر وأكثر، فيتبجّح قائلاً إنّ الإنقاذ لو لم تستولَ على الحُكم، كان حيحصل ليكم أكتر مِن كدا، وكما هي العادة بعد كل خطاب خرج هاج مهمّد وأهله إلى إحدى المناسبات، حيث تدور هناك فعاليات حوار مُجْتَمعي صّريح، لا طاقة لأوعية النظام به، كان هاج مهمّد مِنْ موقعه كمندوب سامي، يشارك رغم أنفه في تلك الفعاليات، مرة بالرّطانة وتارة بالعربي، وعادة ما كانَ يتأهّب للرّد على الأزمات المُزْمِنة بسيل جارف من الآيات والأحاديث التي استهلك وقتاً طويلاً في حفظها، فى إحدى الجّلسات الشفيفة، وجد أهله يحاصرونه بشدّة، احتجاجاً على استعرابه المُفاجئ، قائلين له إن القعدة مع الجّماعة دول، خربتو مرّة واحدة، كان هاج مهمّد يدافع عن ذاته الإنقاذية بسدّ الذرائع، مُتّخِذاً أسلوب الأشاعرة في الكلام، لذلك لم يقع حديثه موقعاً حسناً في نفوس القوم، وبهذا تحرّكت نبرة الحوار المُجتمعي نحو المزيد من الشّفافية، وزادت وتيرة الصّراحة المعروفة في اللسان النوبي، حتى لجأ هاج مهمّد إلى الاستدلال بالتغريدات التي عادةً ما ينشرها المفكرون الإستراتيجيون، من نوع أنّه لا يوجد بديل للإنقاذ سوى الإنقاذ، وأن الوضع كان ممكن يكون أسوأ ممّا هو عليه، لو لا مجيئ الّإنقاذ. وختم هاج مهمّد تغريداته ناصحاً لأهله أن يتمسكوا بالمحجّة البيضاء، وأن يحمدوا الله على ذلك!.. عندما تلمَّسَ أهله مُخرجات الحوار على ذاك النحو، وقف كبيرهم وقال له: يعني يا هاج مهمّد، إنت وناسك ديل عاوزين تأكلوا، وعاوزين مِنّنا نِحن نَحمِدْ ليكم رَبُّنا، والّا الحِكاية إيه!؟