قلت أمس إن المناطق السودانية المتاخمة للدول العربية وبالتحديد السعودية ومصر، غير ناطقة بالعربية، ففي الشرق المطل على البحر الأحمر نجد البجة، وهم «شعب» عريق يتألف من عدة قبائل، وفي الشمال المتاخم لمصر نجد النوبيين الذين انتمي إليهم وهم أصحاب واحدة من أعرق الحضارات في التاريخ، والآثار المنتشرة من شمال الخرطوم إلى شمال أسوان في مصر شاهدة على ذلك، والنوبيون أيضا حاميون (يا أمريكان ليس معنى هذا أننا أعداء للسامية فتسوموننا سوء العذاب) وهم أيضا «شعب» وعرق واثنية وليسوا قبيلة، بل إن القبلية غير معروفة في منطقة النوبة، رغم أن لغتهم انقسمت إلى ثلاث لهجات بينها قواسم كثيرة مشتركة، وهم غير النوبة المقيمين في إقليم جنوب كردفان الملاصق لجنوب السودان، والذين مازال بعضهم يرفع السلاح في وجه حكومة الخرطوم، بعد أن كانوا جزءا من «الحركة الشعبية لتحرير السودان) التي اكتفت ب«تحرير» وفصل الجنوب وإقامة دولة مستقلة فيه (كلمة «مستقلة» هذه تعطي الانطباع بأن الجنوب كان مستعمرا من قبل أهل الشمال). ولأن النوبيين والبجة يرتكبون جرائم بشعة بحق اللغة العربية، فإن أهل السودان الأوسط يؤلفون عنهم مئات النكات سنويا: في أحد المقاهي سأل الجرسون نوبيا قال إنه يريد «هاجة (حاجة) بارد»: آيس كريم؟ فرد النوبي: مش آيس، فبسبب العجمة حسب أن الجرسون يسأله: عايز (آيس) كريم؟ فنحن ننطق حرف العين ألفا والزاي سينا، وهكذا فإن اسم عزالدين يصبح عندنا «إس الدين» وزينب عبدالعزيز تصبح سينب أبد الأسيس.. وبالمناسبة فإن كل السودانيين يسمون المشروبات الباردة «حاجة باردة».. تماما كما يقول الخليجيون: عطنا شي بارد! وكما أن للبجة في شرق السودان أسماء مميزة فإن لأهلي النوبيين أسماء مميزة، والغريب في الأمر هو أن الأسماء النوبية البحتة وقف على النساء، فمعظم الرجال النوبيين يحملون أسماء «إسلامية» وعربية ولكنهم يتميزون باحتكار أسماء مثل دهب (بالدال) وساتي وأرباب وصالح وعبدو وداود (النوبيون ينطقون صالح.. سالي لأن حرف الصاد يسبب لهم التهابات في الحلق والغدة النخامية)، ولا وجود لحرف (صوت) الحاء في اللغة النوبية، فيستبدلونه بالهاء أو الياء، فمحمد عن النوبيين إما مهمد أو ميمد.. أما الأسماء النسائية النوبية التي لا تزال شائعة فمنها: هجلة، فرين، دارا، مِسمكة، جوقة (يعني من تمارس مهنة الطحن) وشيره (ويعني الماشطة)، مياسة (وليست له صلة بالكلمة العربية ماس يميس ومنها مياسة القد)، وجاره (بفتح الراء ولا صلة له بجارة العربية المشتقة من الجوار)، وأليسا (ولا صلة لهذا الاسم بأي أنثى تمارس الشخلعة عبر التلفزة الفضائية)، وهُوللا (وهو ليس تحريفا لاسم خوله العربي كما يحسب البعض). واللغة النوبية سهلة التراكيب والتعلم، رغم أنها لم تعد مكتوبة، فليس فيها تذكير وتأنيث وليست بها «مثنى».. مثلا: إر (بكسر الألف تعني المخاطب المفرد «أنت» ذكرا كان أم أنثى) في حين أن «أُر» بضم الألف ترمز إلى الجماعة المخاطبين.. وقياسا على هذا ف «أَي» بفتح الألف هي ضمير المتكلم المفرد «أنا» ووضع ضمة على الألف يجعلها (أُي) بصيغة الجمع.. شيء آخر يميز النوبيين: هم الوحيدون الذين لم تشهد منطقتهم ظهور تنظيمات سياسية جهوية مناطقية أو انفصالية مسلحة أو غاندية (مسالمة نسبة لغاندي).. ليس لأنهم وحدويون ولكن (وهذا سر بيننا) لأنهم يعتبرون السودان بأكمله ملكا لهم، ويعتبرون بقية السكان ضيوفا «دمهم تقيل» طالت إقامتهم، وليس من حسن الأدب طردهم. جعفر عباس [email protected]