تابعتُ ليلة الخميس حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل، عميد الصحافة العربية- على وزن: طه حسين عميد الأدب العربي- في قناة (الجزيرة الفضائية) في حلقة رابعة استكمالاً لحلقات ثلاث كان قد حاوره خلالها مذيع الجزيرة الألمعي محمد كريشان.. هيكل والقناة اختارا للحلقة التكميلية الجديدة عنوان (على هامش حوارات لندن)، وغاب عن الحلقة كريشان وظهر هيكل منفرداً، على طريقة أحاديثه الراتبة في القناة التي تبثها تحت عنوان (مع هيكل.. تجربة حياة) خصص هيكل معظم الحلقة للحديث عن (تسريات ويكيلكس) ورؤيته لمعانيها من خلال رصد مكتبه لأكثر من عشرة آلاف منها، أطلع- كما قال- على ثلاثة آلاف منها بتمعن، ورأى أن هذه الوثائق لا تكشف عن خطط استراتيجية خفية ولا تتصل بالأسرار المكتومة في دهاليز المخابرات ووزارات الدفاع، بقدر ما تكشف وتقدم (صورة بانورامية) عريضة لمذكرات وخطابات تداولها السفراء الأمريكيون مع رئاسة وزارتهم في واشنطن، وهي مما يمكن تصنيفه في إطار الخطابات (السرية العادية) أو تلك التي ترسل (للعلم) وتصب جميعها تقريباً في إعطاء صورة لرئاسة الخارجية عن كيف يفكر المسؤولون في الدول التي يعمل بها أولئك السفراء وكيف يتصرفون في مواقف ومناسبات بعينها، وذلك مما يعين صانع القرار الأمريكي على تقدير الموقف في كل حالة على حدة، ونعى هيكل على المسؤولين العرب عدم حذرهم ودلقهم للحديث على عواهنه أمام السفراء الأجانب، الذين يرصدون كل ما يقولون، وعلى الإسراف والبذخ في الصرف على المناسبات التي تلفت نظر هؤلاء السفراء، وتثير سخريتهم، وتندُّرهم على ما يعتبره المسؤولون العرب من موجبات كرم الضيافة، كأن يحسب أحد هؤلاء السفراء عدد الأطباق التي قُدمت له في(عزومة) واحدة بعشرة أطباق، ويكتب عن تلك(الواقعة) لرئاسته. وقد خصص هيكل جزءً مقدراً من وقت الحلقة ذات الدقائق الخمسين للحديث عن الاستفتاء لتقرير مصير جنوب السودان، وهو حديث كان صادماً لي بكل المقاييس، ولم أصدق أنه يمكن أن يصدر من صحافي بقامة هيكل، وقدراته المعهودة في رصد المعلومات وتصنيفها وتحليلها، بما يشكل في العادة إضافة حقيقية لقارئه أو مستمعه، فجاء حديثه عن المأزق الكبير الذي يشهده السودان أقرب وأهم البلدان بالنسبة لبلاده مصر، من قبيل أحاديث العامة، وبالمعلومات العامة والمتاحة للجميع، ولكن ما هو أسوأ إنها كشفت أن(الأستاذ) يفكر في الشأن السوداني كما يفكر أي مصري عادي لا يهمه من هذا السودان إلا(تأمين الميَّه)، وجريان النيل بدون عوائق أومشكلات، كما كان يحدث عبر مئات السنين فماذا قال هيكل؟ قال في لمحة عابرة وجُمل مختصرة.. إن السودان يواجه استفتاءً على تقرير المصير بين الوحدة -وهي احتمال ضئيل- وبين الانفصال هو الاحتمال الأرجح، كما يواجه احتمال أن يكون الانفصال سلمياً يمهد لقيام دولتين متجاورتين في الشمال والجنوب، أو أن يكون انفصالاً عدائياً يقود إلى حالة صراع وحرب بين الدولتين الناشئتين، لكن ما يهمنا ويهم مصر هو أننا سنجد أن هناك دولتين في جنوبالوادي سيكون بينهما صراع وجدال حول حصص المياه لكل واحدة من تلك الدولتين، وهذا ما سيؤثر بطريقة أو أخرى على حصة مصر في المياه، تلك كانت هي (القضية) الأهم بالنسبة للأستاذ هيكل، لأنها- كما قال- تدخل في صلب(الأمن القومي) لمصر، التي كان يأتيها التهديد لأمنها القومي فيما مضى من الشرق والشمال، وهاهو الآن يأتي من جهة الجنوب. وتحدث هيكل، بامتنان شديد، بأن أكبر خدمة تاريخية أسداها الاستعمار البريطاني لمصر هو أن أمَّن لها الحصة الأكبر في مياه النيل عبر اتفاقية 1929م، وبرر ذلك بأن بريطانيا كانت تريد أن تصنع من مصر أكبر مزرعة للقطن في العالم لإمداد مصانع النسيج لديها، وأن هذه الخدمة أو (المِنَّة) ظلت تستمتع بها مصر منذ العهود الخديوية وفي مطالع الاستقلال وحتى في عهد الثورة دون أية مشكلات، بالنظر للسياسات التي كانت متبعة طوال هذه العهود.. وأشار من بعد إلى أن هذه السياسات قد تغيرت وتبدلت في أوقات لاحقة، ففي الماضي وفي عهد عبد الناصر على وجه الخصوص لم تكن الدول الأفريقية تنازع مصر في ما يعتبر(حقها المكتسب) أو(حصتها التاريخية) بالنظر إلى الدور الكبير الذي كانت تضطلع به مصر في دعم حركات التحرر الافريقية من جهة وما ترتب على ذلك من احترام، وكذلك لعدم تدخل مصر في الشؤون الداخلية لتلك الدول، إلى أن جاء وقت بدأت مصر تتدخل في أثيوبيا- مثلاً في عهد منجستو هايلي مريام - باعتباره نظاماً شيوعياً، أو في العهد الحاضر- عهد زيناوي- خصوصاً بعد محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا، كما أنها عادت النظام الحاكم في السودان لأول عهده، وكل ذلك قاد إلى أن تتحرك العديد من دول القارة، بدعم من اسرائيل وغيرها من أجل المطالبة بنصيبها في مياه النيل. هذا كل ما هم هيكل من الاستفتاء وما يترتب على تقرير المصير لجنوب السودان، ولم يتطرق مثلاً من قريب أو بعيد لتحليل الجوانب العديدة والقضايا الخطيرة الأخرى التي تترتب على الانفصال، لا لجهة إضعاف السودان وما يمكن أن يتعرض له من تمزيق جراء هذا الانفصال في بلد متعدد الأعراق والثقافات، ولا لجهة العلاقات العربية - الأفريقية التي كان يمكن للسودان أن يلعب فيها دور الجسر الواصل بين العالمين العربي والأفريقي ليؤمن التضامن بين العرب الأفارقة والعرب الآسيويين من جهة، وليخلق فضاءً أكبر للتنمية البشرية والزراعية التي كانت يمكن أن توفر لمصر احتياجاتها من الغذاء وتفتح صناعتها وتطورها أسواقاً بحجم قارة، خصوصاً في ضوء الانفجار السكاني، وتنامي معدلات الفقر في أرجائها، مثلما لم يأبه هيكل في ذلك الحديث لقضايا التطور الديمقراطي والتحولات السياسية التي يمكن أن يشهدها السودان في حالة الانفصال، والتراجع المنهجي الذي يمكن أن يترتب عليه ويؤثر على جيرانه والقارة برمتها.. ما هم هيكل وركز عليه هو قضية المياه وحصة مصر فيها، باعتبارها(الخط الأحمر) الذي يجب عدم تجاوزه سواء بتقصير الدولة المصرية أو بتطلع الجيران لأنصبة عادلة، خصوصاً مع الجفاف والتصحر الذي بدأ يضرب أجزاء عديدة من القارة بما في ذلك مناطق(السافنا الغنية)سابقاً، ومما يدعو للأسف أن يصدر ذلك ممن هو في قامة هيكل، أستاذ الصحافة الأكبر والأندر في عالمنا العربي.