يوم الثلاثاء المنصرم قمت بجولة نظمتها وزارة التخطيط العمراني إدارة الطرق والجسور وقيادات هندسية من الوزارة.. الجولة كانت ضمن مجموعة صحفية معتبرة للوقوف على بعض المعالم الجديدة لولاية الخرطوم في إطار تنفيذ المخطط الهيكلي للولاية، كانت البداية من شارع النيل أمام ولاية الخرطوم والتحرك صوب كورنيش النيل الجديد الذي يبدأ بعد الفلل الرئاسية ماراً أمام برج الهيئة القومية للاتصالات وتحت كبري المنشية وحتى كبري سوبا الجديد، المزمع إنشاؤه لربط سوبا بأم دوم الضفة الشرقية للنيل، وإكمال جزء من الطريق يتمكن الذي يريد السير دون توقف من المرور على هذا الطريق وبأسرع وقت ممكن.. وحقيقة وجدنا أن العمل هذا سيكون مفاجأة للكثيرين من سكان العاصمة والأقاليم، لأنه عمل متقن وكبير وخطة عظيمة يتم تنفيذها في صمت وعلمية ودراية ودأب شديد.. ثم تحرك بنا البص(بص الوالي)كما يحلو للبعض أن ينسب الأشياء.. صوب كبري(كرري)أو الحلفاية أو الحتانة.. أو المنارة كما يحلو لأهل كل منطقة أن يطلق عليه.. وقبل الوصول إلى الكبري مررنا بشارع الإنقاذ وتجري في أجزاء كثيرة منه توسعة وتفصيل الشارع لكي يكون على مسارين، وهو أيضاً عمل مقدر لم نكن نحلم به أو بمثله في السابق، حيث الشوارع الضيقة وغير المضاءة والحفر بسبب عدم استصحاب مجاري مياه الأمطار مع مثل هذه الإنشاءات المكلفة والمهمة في ذات الوقت.. بل واستصحاب جميع الخدمات المصاحبة للشارع من مياه وكهرباء وصرف صحي ومجاري أمطار، حتى لا تتكرر مشاهد سفلتة الشارع وفي اليوم التالي تجد من يقوم بقطعه لتوصيل واحدة من الخدمات الضرورية، فيكون مثل هذا العمل المكلف محل تندر وسخرية الشارع، وبذات الطريق الذي تجري فيه عمليات التوسعة والفصل والسفلتة انطلقنا صوب كبري(كرري)وأنا أصرُّ على كبري كرري لأن هذا هو المكان الذي انطلقت منه رصاصات المدافع والرشاشات من باخرة المستعمر كتشنر عام 1898 وقتلت آلاف الشهداء من مقاتلي الثورة المهدية عند جبل كرري وسالت عليه دماء الشهداء حتى بلغت النيل.. ولهذا السبب نعتبره أقل ما يمكن أن نخلد به تاريخ أعنف معركة عسكرية وبسالة نادرة أظهرها أجدادنا في القتال لصالح حماية الثورة التي حررت السودان من الحكم العثماني والإنجليزي.... وحقيقة عندما دخلنا الطريق المؤدي من شارع الطيار الكدرو صوب الكبري شعرت بفخر عظيم وبعزة، بأننا اكتسبنا وبسرعة فائقة القدرة على البناء في مجال لم نكن نعلم عنه شيئاً، ولم نجرؤ طوال عمر الاستقلال(خمسين عاماً)على الدخول في مثل هذه الصناعة.. صناعة الكباري، وذهبت قبل أن يبلغ بنا البص مدخل الكبري إلى يوم تدشين توربينات سد مروي، والهتاف التلقائي الذي غطى السماوات والأرض في ذلك اليوم التاريخي(الرد الرد.. كباري وسد) فبعد أن عشنا مع كبري النيل الأزرق الذي يربط الخرطوم ببحري.. والنيل الأبيض الذي يربط الخرطومبأم درمان، لم نتمكن خلال نصف قرن سوى إقامة ثلاثة كباري هي بالترتيب (كبري شمبات، كبري بري، وكبري حنتوب في ود مدني)، غير أننا وبفضل فتح المجالات لأبناء بلادنا من المهندسين ومنحهم الثقة في علمهم ومقدراتهم تمكنا خلال عشر سنوات فقط من إنشاء عدد مقدر من الكباري يفوق العشرة، أهمها في الولايات مثل كبري رفاعة الذي كان حلماً بعيد المنال.. ومساحة للوعود الكاذبة والأحلام المستحيلة.. ثم كبري شندي المتمة، ثم كبري عطبرة الفاضلاب ثم كبري دنقلا السليم الذي يربط الطريق القاري السودان- مصر.. ثم كبري الدبة أرقي.. وهذا الأخير يخدم مناطق كانت منقطعة عن بعضها البعض منذ آلاف السنين، لأسباب وعورة الطرق والزحف الصحراوي، ونزوح أهلها إلى مناطق أكثر أهلية للإقامة والزراعة التي هي المهنة الأساسية لأهل الشمالية.. وهذه الكباري والطرق المصاحبة لها سواء في العاصمة أو الولايات أسهمت في إحياء الكثير من المناطق المهجورة، ورفعت قيمتها المادية، وانتقلت بسكانها إلى درجات أخرى، سواء لأسباب التعويضات المجزية التي منحوا لها أو لتحول المناطق بسبب الشوارع الجديدة من مناطق وأحياء عشوائية وطاردة إلى مدن جديدة، تطل على الطرق الحديثة.. بيد أن هناك إشكالات لوجستية سوف تواجه السلطات وهي تمضي في تنفيذ هذا المخطط الاستراتيجي، الذي سيحول العاصمة وكورنيش النيل إلى عاصمة سياحية، ربما نبالغ ونطلق عليها اسم عاصمة الضباب بدلاً عن عاصمة الغبار والكتاحة.. هذا الأمر هو كيف وأين سينتهي العمل في كورنيش النيل بعد بلوغه النادي الأمريكي في الجريف أو المنشية.. وكيف سيمر شارع الكورنيش في أم درمان عندما يبلغ منطقة الطابية والصالة الضخمة التي أقيمت على النيل مباشرة!؟