لمولانا السيد محمد عثمان الميرغني مرشد الطريقة الختمية وزعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي نهج مختلف، إن لم يكن محَّيراً للمراقبين المتابعين لحركته ومواقفه السياسية، ولا أظنني أجانب الحقيقة إذا ما وصفت هذاالنهج بالمرونة أو «السيولة» الزائدة التي تصب في كل الاتجاهات، وإن تعاكست أو تناقصت في رؤاها وغاياتها.. فكلنا يذكر كيف أن السيد الحسيب النسيب كان يصب جام غضبه، وينذر قادة «الإنقاذ» بالثبور وعظائم الأمور إبان تسنمه قيادة التجمع الوطني المعارض، عندما كانت تتراوح تصريحاته بين لازمتين لا ثالث لهما: «الاقتلاع من الجذور» أو «سلّم تسلم».. حتى كان اتفاق جدة الإطاري بينه وبين الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب الرئيس الذي مد من جسور التفاوض والتفاهم بين الميرغني والحكومة عبر البحر الأحمر، حتى كانت اتفاقية القاهرة بين الخرطوم والتجمع في 18 يونيو 2005م، بعد ستة أشهر من إبرام الحكومة والحركة الشعبية لاتفاقية السلام الشامل المعروفة اصطلاحاً ب «نيفاشا». ومع ذلك فإنه من العسير على أي مراقب أن يتنبأ أو يتوقع مسبقاً الموقف المنتظر من مولانا الميرغني إزاء أي حدث مهم تشهده الساحة السياسية السودانية، وانعكس هذا بالضرورة على مواقف الحزب الكبير التي اتسمت بالغموض في كثير من المنعطفات الحادة والكبيرة التي شهدتها البلاد، مثلما انعكست على علاقات التحالف بين الحزب وقوى المعارضة والتجمع الوطني الذي كان الميرغني رئيساً له قبل أن يتلاشى ككيان جامع لقوى السودان المطالبة بالتغيير والتحول الديمقراطي.. وأقرب مثال للأذهان هو غياب الإجماع الوطني، أو تحالف جوبا، الذي غاب عنه الميرغني والحزب الاتحادي الوطني لو لا تلافي الأستاذ علي محمود حسنين للموقف بأن هرع الى جوبا في اليوم الأخير من ذلك المؤتمر المسمى «مؤتمر كل الأحزاب» في اواخر شهر سبتمبر 2009م.. أما أحدث هذه المواقف هو رسالة الميرغني للرئيس البشير، تلك الرسالة التي نشرتها الصحف السودانية والتي تؤيد - دونما تحفظ - خطاب الرئيس البشير في القضارف الشهر الماضي الذي أعلن فيه خطة الحكومة لتعديل الدستور، إذا ما وقع الانفصال بحيث تكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للقوانين والتشريع، وتكون اللغة العربية هي لغة البلاد الوحيدة.. حتى سمعنا من بعد أن تلك الرسالة قد تم تشويهها أو تحريفها، وفق ما أبلغ وفد اتحادي الإمام الصادق المهدي وزاره خصيصاً لتوضيح الحقيقة فيما يتصل بتلك الرسالة. ما دعاني لهذه المقدمة الطويلة، وهذه «الاضاءة» هو خطاب مولانا السيد محمد عثمان في هذه الذكرى الاستثنائية للاستقلال وهو خطاب طويل ومفصل ومهم، قد يزيل بعض الغموض الذي انتجته «المرونة الزائدة» التي طبعت نهج السيد الميرغني والحزب الاتحادي منذ توقيع اتفاقية القاهرة والسنوات التي تلتها، لفت نظري في هذا الخطاب أن كل مواقف السيد الميرغني كانت مواقف «متعمدة» ومقصودة انطلاقاً من تقديرات يراها وجيهة بل ضرورية في مواجهة حالة الاحتقان والمشهد السياسي المعقد الذي يسيطر على البلاد.. ورأيت أن الضرورة تستدعي القاء الضوء على أهم مفاصل هذا الخطاب انصافاً للرجل، واجلاءً لبعض الغموض الذي سيطر على مواقف الحزب إزاء تطورات الأحداث. ü فالميرغني يقول في خطاب الاستقلال: إنه منذ اتفاق جدة الاطاري وحتى يومنا هذا «التزمنا السلم سبيلاً»، لتقديم المصلحة الوطنية في التعاطي مع الأزمة السودانية، إيماناً منا بأن الجسم السوداني لم يعد يحتمل مزيداً من الجراح.. وكان موقفنا من هذه الجهود والمبادرات (أكثر المواقف مرونة) وأكثرها جلاء، ولم تكن مرونتنا عن ضعف، ولكنها كانت عن قناعة بأهمية السلام للمواطن السوداني، الذي اثقلت كاهله دوامات الحرب والانقلابات العسكرية على الديمقراطية. ü ويقول أيضاً: لقد أردنا أن تكون اتفاقية نيفاشا بداية تتوسع قاعدتها الضيقة لتكسب الاجماع الوطني، وتُطرح للشعب في استفتاء عام بعد نقاش مستفيض، وشاء الله أن يتزامن ذلك التأييد مع مبادرتنا للوفاق الوطني الشامل.. ولكن البعض ظن أنه بمجرد التوقيع على الاتفاقية قد تحقق السلام، وقد نبهنا لخطورة ذلك ووقعنا اتفاقية القاهرة في 18 يونيو 2005م، لكنها لم تلقَ الاهتمام المرجو وأجهضت بممارسات يعلمها الجميع، حتى أصبحت الآن شأنها شأن بقية الاتفاقيات في الرمق الأخير. ü ثم عاد الميرغني لجهوده السلمية قبل «الإنقاذ» فقال: إن رصيدنا في العمل مع الأخوة في الجنوب يؤهلنا تماماً لوصف العلاقة بيننا بأنها علاقة استراتيجية، قامت على الاحترام المتبادل وعدم المزايدة على الوطنية، وقد توجناها باتفاقية السلام السودانية والموقعة في 16 نوفمبر 1988 «مبادرة الميرغني - قرنق» والتي تضمنت وحدة السودان تراباً وشعباً، وقدمت لمؤتمر دستوري حقيقي، يتساوى فيه الجميع بدون احتكار أو عزل لأية جهة، ولكن «ضيق الأفق السياسي والانقلابات العسكرية» وقفا أمام ذلك، كما أن رصيدنا في العمل المشترك في التجمع الوطني الديمقراطي مع الأخوة في الحركة الشعبية والقوى الجنوبية الأخرى، جعلنا ندرك أن الوحدة رغبة أصيلة لدى المواطن الجنوبي، عبر لنا صراحة عنها الدكتور جون قرنق دي مبيور ولدينا التزامات تاريخية بهذا الصدد. ü وعن الفترة الانتقالية التي جاءت لدعم الوحدة وتأسيس وضع يستوعب الجميع، فقد عبر الميرغني عن خيبة أمله لضياعها وقال: إن الفترة الانتقالية اعترتها الكثير من المكدرات، ولم يراع الشريكان ضرورة استيعاب آراء المجتمع السياسي وتضمنت الكثير من المشاكسات، وصارت الممارسات البرلمانية لا تعبر عن رغبات السلام والوحدة، وقد نبهنا مبكراً الى العيوب والنواقص التي اشتملت عليها القوانين وعلى رأسها قانون الاستفتاء.. إن اقامة الاستفتاء في جو من الاستقطاب الحاد أطلق صافرة الانذار الأخير لمحاذير الانفصال، حتى أن الوحدة الجاذبة أُلبست «ثوب القهر والاستبداد والنفاق وأصبحت وحدة كاذبة بكل أسف» ولم يفسح للصادقين المؤمنين بوحدة البلاد أن يبشروا بها، وأن الاستفتاء في ظل هذا الجو المشحون يعتبر مغامرة كبيرة أياً كانت نتيجته، فهو في حد ذاته عبء لا يُقوى على مغالبته، ومُلأ بأطماع أجنبية نخشى من أن عواقبها تتعدى حدود الوطن وقد «تم تحميله بعداً دينياً ينذر بالدخول في موجة من التطرف»، لأجل هذا قدمنا رؤيتنا الاسعافية لإنقاذ وحدة السودان، متمثلة في طرح «الكونفيدرالية طريقاً ثالثاً بين الوحدة والانفصال» ولو كمرحلة انتقالية تسمح لنا بالتبشير بخيارات الوحدة في مناخ بعيد عن الاستقطاب الحاد. ü وحول الانتخابات الأخيرة والأداء السياسي للحكومة قال الميرغني: إن الانتخابات الأخيرة و «ما شهدته من أحداث القت بظلالها على الساحة السياسية وزادت الجو تعقيداً ونفرت الجميع من العمل السلمي»، كما أن تضييق مساحة الحريات والتعامل مع الاحتجاجات بشكل غير موفق زاد الأوضاع سوءاً، وضاعف ذلك السوء معاناة شعبنا الاقتصادية المريرة واستشراء الفساد، وظهور الأسواق الوهمية، وما أفرزته من نتائج سالبة.. وإن موقفنا من كل ذلك يأتي ناصراً ومنحازاً للشعب وطوائفه المسحوقة، حتى نسترد لهم الحقوق ونؤمن لهم العيش الكريم. ü وبعد أن عرج الميرغني على الوضع في دارفور ونشاط حزبه من أجل السلام هناك انتقل للحديث عن الإسلام والشريعة والتعدد فقال: أن الإسلام السمح يدعونا الى الاتحاد والاعتصام وضمان لحمة الأمة، ويجبرنا على احترام الآخر ويعلمنا التعايش والتسامح واحترام سيادة القانون.. وإننا نؤكد أن «استغلال اسم الشريعة في تطبيق نماذج اجتهادية اضر بصورتها وسيضر بها، وإن رفعها كأداة سياسية وشعار مرحلي من أجل كسب الدنيا أمر يجب مراجعته». هذا بعض ما جاء في خطاب الميرغني في ذكرى الاستقلال، وأرى فيه الكثير مما يستحق المناقشة وإعمال النظر من جانب القوى السياسية المعارضة والحاكمة على حد سواء، خصوصاً في هذا المنعطف الخطير الذي تجتازه بلادنا.