في الوقت الذي تجمهر فيه العالم ليراقب من ركن قصي الصراعات العرقية والدينية والأثنية التي ورّثها الاستعمار الغربي لأفريقيا، تبلورت ملامح أحدث دولة أفريقية مغلقة بجنوب السودان، إذ من المتوقع أن يؤدي الاستفتاء على تقرير المصير هذه الأيام الى ميلاد أحدث دولة مستقلة في أفريقيا.. تلقي مسؤولية ضخمة على كاهل أبناء الجنوب، والذي سيركز العالم برمته على نجاح أو فشل تجربتهم في الحكم الرشيد. وتشكل قضية الوطنية صلب التحديات الماثلة للقارة الأفريقية، وذلك أن الحدود الاصطناعية والتي رسمت في العام 1886م في مؤتمر برلين، ينظر إليها بأنها الشرارة التي أشعلت نار الصراع الطائفي في أفريقيا، إذ جمعت أقليات عرقية متجانسة في بعض البلدان بينما نشرت قوميات وعرقيات متباينة في بلدان أخرى، وخلقت ملاذات آمنة لجماعات متطرفة عبر الحدود وشبكات سوق سوداء من أجل الحفاظ على النزاعات الطائفية في القارة، ومع ذلك عض الاتحاد الأفريقي بالنواجذ على هذه الخطوط الوهمية المقدسة على الخريطة، وحرمت بشكل موحد كل محاولة لمراجعة أو إلغاء أو حتى الاستئثار بشأن سلامة هذه الحدود، ولعل تحديات السيادة الوطنية واحتمالات الفوضى التي يشكلها إلغاء الميثاق.. يفسر لماذا ترفض الدول الأفريقية فتح صندوق العجائب هذا، ولعل اتفاقية السلام الشامل في العام 2005 قد كفلت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بشكل أفضل من الطريقة التي تم بها انفصال أريتريا من أثيوبيا. في العام 1993 في الوقت الذي كان فيه اتحاد ما بعد الحرب العالمية الثانية صاحب قرار بالمنطقة، كانت الاضطرابات والحروب الأهلية في السودان الأطول والأكثر تعقيداً بسبب مصفوفة متناقضة من العوامل التاريخية والثقافية، إذ إن هناك تبايناً شديداً في المعتقدات والإرث الحضاري بين الشمال والجنوب، وذلك أن تأثير التجار العرب والصيادين قد أثر على التركيبة العرقية لشعب السودان في فترة ما قبل الاستعمار، وتجلت آثار هذا التأثير بعد ظهور النفط في ثمانينيات القرن الماضي.. وطريقة التعامل مع هذا الواقع في هذه الجزئية السودانية يعزز المشكلة الأساسية ألا وهي أثر الانفصال السلمي والمنظم على خارطة أفريقيا، وذلك للاختلاف الكبير بين الوضع السوداني والأثيوبي الأريتري، وذلك أن ولادة السودان الجديد في السودان الأم يعد السابقة الأولى لجملة أسباب أهمها أن السودان أكبر قطر في أفريقيا، إلا أن النخب الحاكمة قد فشلت طوال فترة ما بعد الاستعمار في وضع ربورتاج وتحليل صحيح لحقيقة الصراع بين الشمال والجنوب، الأمر الذي قد يجعل من انفصال الجنوب فتيلاً يشعل المزيد من الصراعات العرقية.. وحتى تجزئة السودان بشكل كامل قد يكون قوة من أجل الإصلاحات واللامركزية التي تعزز التكامل الاجتماعي والاقتصادي للمناطق والبلدان المجاورة، وهذا ينقلنا إلى قضية محتملة وهي أن يكون الاستفتاء ضربة البداية لسيناريوهات مشابهة بناء على مجموعة الإيجابيات والسلبيات المحتملة في سيناريو ما بعد الانفصال خاصة وأن الدولتين ستربطهما علائق وثيقة تلعب فيها الخرطوم دور اليد العليا، وذلك أنها قد تزرع للجنوب من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. أو ترفض الإقرار والاعتراف بنتائج التصويت، كما أن على الجنوبيين الحذر من فشل إدارة الجنوب في حال تم الانفصال، إذ إن ذلك قد يدفع الحكومة المركزية لتبني سبل جديدة لمعالجة القضايا ذات الشبه في السودان خاصة وأن حكومة جنوب السودان تنتهج نفس التقليد الموروث في نظام الحكم الذي تسيطر على مقاليده القبضة الفولاذية الواحدة على الرغم من اعتبار التعدد الذي عرضته الحركة الشعبية قبل توقيع اتفاقية السلام الشامل، الأمر الذي أدى إلى تفشي الأمراض السياسية التقليدية كالفساد الذي أقعد برنامج التنمية المتوقع مع عائدات السلام بعد 2005م. ظهور السودان الجديد سيقدم رؤى وآفاق جديدة للقوى المتحكمة في تحريك رأس المال الأفريقي نحو الدولة الجديدة والتي تختلف عن نظيراتها اللاتي خرجت من حكم استعماري ليرفض براون النظام المحلي والدولي، كما ستسلط الدولة الجديدة الضوء على دور المنظمات الوطنية ووكالات الأممالمتحدة والتحالفات غير الحكومية بين الجنوب والشمال والهيئات الإقليمية كالإيقاد والاتحاد الأفريقي وزعماء القبائل ومنظمات المجتمع المحلي الجديد والمؤسسات الشعبية والتقليدية، إضافة إلى الجنوبيين الموجودين بالخارج والحكومات الغربية ودول حوض النيل والشركات الصينية والناشطين، كما أن تعيين الحدود بين الدولتين يعتبر مفتاح تقليل الصراعات على جانبي الدولتين.. ويبقى بعد ذلك أن نرى هل سيستفيد المواطن في الشمال والجنوب من عائدات النفط؟.. وهل الاستقلال ترياق أمراض الشعوب؟.. ولنسأل شعب تيمور الشرقية