أزاحت أحداث «تونس»، وثورتها الشعبية، السودان من واجهة الأحداث العالمية بعد أن ظلّ يحتكرها زماناً طويلاً، تارة من زاوية دارفور، وتارة من زوايا المعارضة المختلفة، وتارات من خلال علاقات الشريكين، ثم أخيراً من زاوية استفتاء جنوب السودان حول تقرير المصير والقضايا العالقة والمواجهات والمصادمات داخل أحراش الجنوب وغاباته أو على خطوط «أبيي» المُلتهبة. أحداث «تونس» أراحتنا قليلاً من الاتصالات المستمرة التي ظلّ الصحفيون والمحللون السياسيون والمراقبون للشأن العام، يتلقونها من الفضائيات أو وكالات الأنباء أو الإذاعات الإقليمية والعالمية للإدلاء بآرائهم حول قضايا البلاد التي لا تكاد تنقضي! ظهور تونس على سطح الأحداث وسيطرتها عليه، جعلت أهل الإعلام العربي والإسلامي تحديداً يتحدّثون عن (أول) ثورة شعبية تنجح في الإطاحة برئيس من على مقاعد الحكم.. وظلّت فضائيات عربية كبيرة ومؤثرة تردد مثل هذا القول الخطأ، الأمر الذي أثار حفيظة سودانيين كُثر، لأنه بعد الثورة الفرنسية التي بدأت في العام 1789م، وانتهت تقريباً في العام 1799م، ونجحت في إلغاء الملكية المطلقة والامتيازات الإقطاعية للطبقة الارستقراطية وسيطرة الكنيسة من خلال النفوذ الديني غير المحدود، والتي يؤرّخ لها بالرابع عشر من يوليو 1789م، وهو يوم سقوط سجن الباستيل واقتحامه من قبل الثوار الغاضبين الجائعين.. نقول إنّه بعد تلك الثورة الشعبية العارمة، لم يشهد العالم مثيلاً لها إلا في العام 1881م بداية انطلاقة الثورة المهدية في السودان التي أزالت نظاماً سياسياً كاملاً ليحل مكانه نظام جديد يختلف في الفكر والعقيدة وهياكل الحكم واستكملت نجاحها في السادس والعشرين من يناير 1885م باستيلاء الإمام المهدي على آخر معاقل الحكم آنذاك. بلادنا شهدت ثورات عديدة منها المُسلّح مثل ثورة 1924م التي قادها البطل علي عبد اللطيف ورفاقه وبعضها مدني وشعبي مثل ثورتي أكتوبر 1964م وإبريل 1985م.. وهما ثورتان شعبيتان بمعنى الكلمة، أزاحت الأولى حكم الفريق إبراهيم عبود - رحمه الله - الذي استمر من 17 نوفمبر 1958م وحتى أكتوبر 1964م، وأعادت السلطة من يد العسكريين إلى يد المدنيين بعد ست سنوات كاملة.. بينما أزاحت الثانية التي عُرفت باسم الانتفاضة حكم الرئيس جعفر محمد نميري - رحمه الله - الذي استمر من الخامس والعشرين من مايو 1969م وحتى لحظة استيلاء الجيش على السلطة في إبريل 1985م، وكلتا الثورتين غيّرتا نظام الحكم تماماً واقتلعتا السلطة من الأيدي التي استولت على الحكم عن طريق الانقلاب العسكري. نحن لا نروّج ولا نجيد الترويج لتاريخنا.. ولا لثقافتنا.. وحتى ثوراتنا التي يمكن لأي شعب أن يفخر بها، تضيع تحت أقدام ثورات الشعوب.