معلوم أن الحرية هي عماد العمران في الأوطان، وأنها كانت ولا تزال أعمق مساهمة في تاريخنا المعاصر، فلا غرو إذاً من أبراز معالم وتاريخ عظماء هذا البلد الذين أرسوا قواعدها أمثال كل الخريجين، (والخريج هنا لا يقصد به خريج الجامعة فحسب، بل شمل هذا التعريف كل كشوفات الخريجين من كان تعليمه أولي أو خلافه، ولو استرسلنا في طرح هذه الكشوفات لما وسعتها هذه الصحيفة وإن كبرت، لكن أردت بهذا المقال أن أوضح أن التاسع من يناير من التواريخ المهمة التي انتظمت هذه البلاد منذ عقود، ولا نعرف لها سراً وفيها وبحق أحداث يحق لنا أن نصفها بأنها عظيمة سواء أكانت أفراحاً أو اتراحاً، حيث جاء 9 يناير 1954م بعد أن قدمت مذكرة الخريجين إلى الحاكم العام في ديسمبر 1953م، وفي هذا اليوم صفق ورقص الناس كثيراً بتكوين أول حكومة وطنية وانطلقت بعدها السودنة والبناء والتعمير المؤسس والمدروس، وفي هذا الجو المفعم بالحريات، بدأت تلوح في الأفق بوادر ما نحن فيه، إلى أن تفاجأ العالم قاطبة والعرب والأفارقة والوطن بخبر عاجل ومفجع وموجع تناقلته وكالات الأنباء من اثينا في يوم السبت الموافق 9 يناير 1982 يحمل نبأ وفاة الشريف حسين الهندي، وها نحن اليوم وبعد مرور (28) عاماً ننعي للشعب السوداني قاطبة أسرة سرسيو أيرو- وأسرة بوث ديو- وأسرة بونا ملوال- ولكل وطني شمالي وجنوبي وللوطن العربي الكبير ننعي لكم الشهيد الشريف حسين الهندي، الذي حدثت وفاته في مثل هذا اليوم من 1982م وها نحن ننعاه نفتقده حقاً (لرأب الصدع)، لأننا نرى باستشهاده يكون جزءً عامراً من تاريخ هذا البلد قد انطوى، وننعي فيه دبلوماسيته هو ورفقاء دربه محمد أحمد المحجوب، والرئيس إسماعيل الأزهري، وننعي فيه مدارسه التي خلفها لنا في التفاني والوطنية التي مهرها بدمه الطاهر، وننعي فيه معجزة القرن العشرين الاقتصادية (بنود الإدارة العمومية)، وما أكثر حاجتنا في هذا الزمن، وما أحوج العرب لها، وكذلك ننعي فيه سيرته العطرة ومجالسه العذبة والمحترمة والظريفة، وكان رجلاً رائعاً حقاً. وكان لابد لنا من أن نحط رحالنا وأن نوقف عجلات التاريخ، ولابد لنا من تحضير المداد والقرطاس والقلم، لأن الكل ينظر والكل يقف في بلاهة، ولأن الليالي القادمات لا تقل ٍ عن ليل أمرئ القيس وأنشد: وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بانواع الهموم ليتبلي وقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل إلا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل هذا هو حال أمرؤ القيس وهو متشوق لامتطاء صهوة جواده في صبح ذلك الليل الذي أصبح أطول ليل عرفه التاريخ، ولكننا ظللننا نتظر خروج صبح التاسع من يناير من ليل الثامن من يناير 2011م، ونحن مشدودون ونتأوه مثل آهات العاشقين وليلنا نصِفه كما وصفه أمرؤ القيس بحركات الجمل عند الوقوف (يتمطى بصلبه ويردف أعجازاً وينوء بكلكل) نعم وليس وحدنا الكل بل العالم أجمع ينتظر ميلاد دولة جديدة، أو فصل عضو عزيز من مساحة هذا الوطن، أو سيشهد مخاض حمل كاذب، على كل حال إذا شهد اليوم 9 يناير الانفصال فإن الانفصال لا يمطر بترولاً ولا قطناً ولا محصولاً بل يمطر أكفاننا ويمطر شتاتنا وأمراضاً وفساداً أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً.. والفصل عند الطبيب يعني البتر، ويعني الجزء الذي لا أمل في شفائه، فهل ياترى أن أطراف هذا البلد تكون- في نظر هذا الطبيب- لا يرجى شفاؤها وأن مشرطه جاهز والانفصال يعني الانقسام أو التقسيم لاجزاء مختلفة في المساحات، ويعني عند أهل الخرط ترسيم حدود، والرسم وهمي غير محسوس، ولا لون له ولا رائحة بل يتخطاه المرء كما تتخطاه الحيوانات البرية والطيور المهاجرة، بالرغم من تسميته بالحدود الدولية (فيا لها من مأساة) والله لا اتفق أبداً مع من يقولون بانفصال الجنوب، لا تنتهي الدنيا، نعم بانفصال الجنوب ستنتهي الدنيا ولن يتسنى للمرء زيارة أخيه وصديقه الذي كان بالأمس يداعبه بالألفاظ الجميلة والظريفة التي نألفها جميعاً، وفي نظري أن يوم 9 يناير 2011م هو يوم مخاض لحمل مستكين برحم عزة منذ 9 يناير 2005م، وحدد للمخاض تاريخ وهو يوم 9 يناير 2011م، ويستمر هذا المخاض لمدة ستة أيام، والجراح هنا هو المفوضية (والمفوضية هذه معروفة لكل الساسة)، فهي عبارة عن جسم مقدس لا لها عرق ولا دين ولا جهة سياسية، وتتراضى عليها الأطراف حكماً وخصماً، وكثيراً ما تتعرض هي نفسها للمساءلة، وبالطبع فهي لا ترضي الكثيرين حتى من وافقوا عليها، والشيء الذي يهمنا هو أن هذه القدسية والهالة هي منحة قانونية ومنذ أمد بعيد إلى ما قبل أبريل الماضي وقبل 9 يناير الحالي، ويبدو أننا في 9 يناير 2011م لا نشهد (كل نفس بما كسبت رهينة)، ولكننا نشهد في هذا البلد مشهداً مختلفاً، فالحمل كان علناً وعلى الأشهاد وعلى عيون وتوقيع العالم، وها هم اليوم يتفاخرون بهذا الإنجاز فقد جاءت الولاياتالمتحدة ولم تخف تفاؤلها، وكيف لا ..طالما ربط هذا الميلاد بميلاد بطل جديد وانجاز لا يوازيه انجاز، حيث انتظمت فضائيات العالم وأجهرت قولها في أخريات العام الماضي، وأنه لو انفصل جنوب السودان يكون هذا أكبر انجاز لأوباما، ويبدو أنه قد عض بأنيابه الأفريقية على هذا القول وواصل اتصالاته مع جميع دول العالم بلا استثناء، مع التركيز على الدول التي يرى أن السودان الشمالي ربما (يكوع) عليها مثل الصين وروسيا، التي هشمتها الفؤوس الأمريكية التي لم تزدها عطراً كما في أشجار الصندل، ولكنها زادتها ضعفاً وهواناً وتشتتاً، حتى في أفكارها وايدلوجيتها بعد أن كانت.. وكانت.. والصين تلك الدولة القوية والصديقه التي بنت لنا قاعة الصداقة الجميلة، والتي غرزت أظافرها العشرة في وحل بترولنا، والتي انكبت وركزت وأصبحت حريصة كل الحرص على مالها وممتلكاتها، والآن أصبح قلبها مع الجافلات وبأيديها قارعة الواقفات، وأصبحت توصي وتتحدث و.. وتأمل أن يعم السلام وتسلم الأرض من الحريق وأن لا (يولع) البترول وأخوتنا العرب المحترمين بالرغم من تقاعسهم بدأنا نلحظ لهم حراكاً، لكن في حدود الكلام فقط فليس لهم اليد الطولى في منع حتى حدوث ما يعكر صفو وانسياب وانتهاء هذا المخاض، وبكل أسف لا يد باطشة لهم ولا يمكنهم استخدام أي سلاح آخر اقتصادي أو خلافه، لأن ما عرفناه عن هذه الأسلحة أنه يتم تدشينها في أخوانهم أولاً، وثانياً حتى آخر طلقة فيها.. نعم الفرجة من الأفارقة عموماً، فعندهم اجتمع الفرقاء وعندهم تم الاحتفال بهذا الحمل وهاهم اليوم يرون بأم أعينهم كيف تنفجر أقلامهم، وينبثق منها ما نراه اليوم وما سنشاهده غداً إن مد الله في آجالنا، ألم أقل أن العملية لا تحتاج إلى طبيب! وأنها ليست بتراً بل تحتاج لمفوضية لأنها مولود جديد، إذا لم يكن الحمل كاذباً، فإذا كان غير ذلك فيكون المولود مشابهاً تماماً للجزء الذي خرج منه، وكيف لا فالحبل السري الذي يربطه هو النيل، والمولود سوداني أفريقي بكل سحناته وكان الشبل من ذلك الأسد، ولكن ياترى كيف تكون فطامة هذا الرضيع فهي قاسية وصعبة جداً جداً، ومكابر من يصفها بغير ذلك (لا أريد أن أخوض في كيفيته)، بل أقول إن الأم عزة والطفل الجزء المسمى بالجنوب، وغداً تحكم العلاقة بين الأم وهذا الطفل القوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية، والحدود تصبح دولية والمرارات أيضاً.. وما تسمى بفترات انتقالية أو ترتيب أوضاع لا تكفيها ستة أشهر ولا السنتين، خاصة إذا علمنا أنه في حال الانفصال، وأردنا أن نعيد الحال إلا ما كان عليه نحتاج لربع قرن من الزمان، ووقتها يكون من ساهم أو اشترك أو حتى شهد على الانفصال قد مات أو هرم، ولابد لمهندسي هذا الانفصال أن يوقنوا أنهم لن يشهدوا الوحدة مرة أخرى أبداً فليعمل الجميع من 9 يناير 2011م من أجل الوحدة القادمة، التي ربما يرعاها أبنا ءالجنوبيين من الشماليات وأبناء الشماليات من الجنوبيين (ملكية). وقد قيل في وصف اتفاقية الشريف زين العابدين الهندي طيب الله ثراه أنها قفزة في الظلام، وللتاريخ أقول إن هذا الرجل هو الذي رفض وأبى كما أبت السماوات والأرض (إباية) اشفاق لا (إباية) إخفاق، فقد أبى اتفاقية تقرير المصير وقال قولته المشهورة: والله لو دا الحال (باطنها خير من ظاهرها) والله ما نحن فيه هو حقيقة قفزة في ظلمات ولجج. ولا استطيع أن أختتم قولي بالأماني، لعلمي الأكيد أن الشعوب والأمم لا تبنى بالأماني، ولا تبنى قصورها في مجاري السيل أحلاماً، ولكنها الأقدار والتقصيشر ونحن في المنبر الوحدوي السوداني شعارنا (أن نلتف حول العلم حتى لا نتباكي على الوطن)، وما زلنا نصر ونطرح ممسكات لوحدة التراب والعلم، وللراحل البطل الوحدوي المناضل الجسور د. جون قرنق ديمبيور سر مطمور دفن بجواره في أعلى قمة بمدينة جوبا، ألا وهي الرقم (21) فقد ناضل وخاض حرباً استمرت (21) عاماً، وبحق لم تكن وسائلها قذرة ولم يتعرض فيها قط لأعراض أهله في الجنوب، بل كانت حرباً شرسة وشريفة ومشروعة طيلة (الواحد والعشرين عاماً) وحتى 9 يناير 2005م (اتفاقية السلام)، وحكم هذا الراحل الجنوب واشترك في حكم الشمال كنائب أول من مكتبه في القصر الجمهوري واحد اوعشرين يوماً فكانت أياماً عظيمة منذ استقباله المنشود في الساحة الخضراء.. ويا للعجب فقد توج هذا السر الذي لا نعرف كنهه في يوم انتقاله وكان يوم 21 أغسطس 2005م. üالمحامي