بإمكان المتأمل للمشهد الثقافي السوداني الراهن، أن يلاحظ عدداً من الظواهر الجديدة التي وسمت هذا المشهد نتيجة لمتغيرات عديدة طالت الكثير من الأقاليم السودانية، وبسبب مستجدات وظروف إقليمية وعالمية. ومع دخول الثقافة السودانية العصر الرقمي وما واكبه من انفجار معلوماتي، أصبح من الضروري تأمل المستجدات الجديدة، وما تفرضه من تحديات والبحث عن سبل التعامل معها على الوجه الأمثل، وتحديث خطط الثقافة السودانية بما يتواكب واستيعاب هذه المستجدات، وما أفرزته من تحديات برؤى مستقبلية متخلصة من إرث الريبة والذهنية المتشككة التي لا تعبر إلا عن الضعف والانكفاء على الذات، بدلاً من روح المبادرة والتحدي التي أصبحت ضرورة للحاق بالنهضة العالمية التي تشهدها ثقافات عديدة ليست في الغرب فقط، بل وفي دول كانت توصف حتى سنوات قليلة بأنها «نامية». وإذا ما حاولنا رصد بعض أهم مظاهر المستجدات على المشهد الثقافي في السودان العام اليوم، فيمكننا التوقف عند عدد من الظواهر والمؤشرات من بينها الوحدة والتنوع التي لا تتعلق بقضية التعددية الثقافية والأقليات في ضوء حالة من تنامي ظاهرة النعرات الطائفية في أكثر من إقليم بصورة لافتة.. وفي وقت متزامن تقريباً، وهو ما يقتضي العمل على انتشار مباديء التعددية الثقافية بديلاً للرؤية الأحادية أو الفكرة الوحيدة. فقد كشفت هذه النعرات عن غياب ثقافة التعددية وما يتبعها من أفكار متعلقة بقبول الآخر وضرورة التعرف على أفكاره ومناقشتها بدلاً من تجاهلها أو نفيها بالمنع والمصادرة مرة، وبالعداء مع أصحابها إلى حد الاقتتال مرات، وهي واحدة من شواهد غياب ثقافة الحوار.. وهي أيضاً إفراز طبيعي لما شهده إقليماجنوب السودان ودارفور على مدى السنين الماضية من ظواهر حركات تحرر التطرف والعنف والاقتتال حتى وصل الأمر إلى تقرير مصير جنوب السودان وفصل الجنوب عن الشمال. وهي ظاهرة تزامنت مع شيوع الأمية الأبجدية والثقافية وتغليب للخرافة على حساب الأفكار العلمية المستنيرة وغيرها من الظواهر التي أسهمت ولا تزال.. في تردي أحوال المناخ الثقافي السوداني، وهو ما أسهم في استمرار إشاعة مناخ التسلط والمنع والرقابة وتقييد الحريات في السودان بسبب ضعف تأثير الخطاب الثقافي الذي من شأنه زيادة الوعي وما يتبعه من إشاعة حالة من النقد المستنير. لذلك فإن التخطيط الثقافي في السودان مطالب بوضع برامج أساسية تهتم بكشف حقيقة الفكر الرجعي المتخلف وعلاقته بالسياسة وإشاعة الفكر المستنير الذي يقدم للشباب السوداني الحقائق عبر أطر معرفية منهجية تعتمد على مرجعيات عدة دون التقيد بمصدر واحد، كما هو شأن كل محاولة منهجية للمعرفة، فضلاً عن توفير المصادر الثقافية والمعرفية وإتاحتها بالنشر الواسع والبث للتأكيد على أهمية التنوع الثقافي الخلاق في مسيرة المعرفة البشرية نحو المستقبل، وعلى دور هذا التنوع الثقافي في القضاء على الهيمنة أحادية الطلب أياً كانت حرية المعرفة والتعبير، هذا كله مرهون في الواقع بقضية الحريات، وعلاقتها بحرية المعرفة والتعبير لأنها جوهر كل إبداع خلاق والعصب الأساسي للتنوع الإبداعي وجوهر توفير المعرفة وما يتبع ذلك من بناء عقل نقدي قادر على الفرز والتقييم لكل ما يتلقاه من أفكار ومعارف بناء على منهج عقلي متطور يرفض كل وسائل التلقين. ومن تلك الظواهر أيضاً قضية العولمة وما تثيره من جدل بين فريقين يرى أولهما فيها لوناً من ألوان الغزو الثقافي، ومحاولة لتنميط الثقافات وفقاً لنموذج واحد مبتدع في الغرب، وفريق آخر يراها وسيلة للانفتاح على الثقافات الأخرى في العالم والاستفادة منها في مسيرة التحديث والنهضة. ولعل ظاهرة العولمة وما تثيره من جدل ترتبط بمظاهرة القطب الواحد الذي تجسده أمريكا في الوقت الراهن. لكنها من جهة أخرى تثير التساؤل عن مدى صحة الفرض القائل بأنها ليست سوى مخطط غربي ينبغي القضاء على ثقافات العالم وخصوصيتها، وأن هذه المواجهة تقتضي الحفاظ على خصوصية الثقافة المحلية والانكفاء على الذات وأيضاً رفض الوسائل الغربية كافة باعتبارها عناصر من أدوات العولمة في مخططها للقضاء على ثقافاتنا الإسلامية والعربية والسودانية. والحقيقة أن هذه الفرضية تحتاج إلى وقفة متأملة خاصة في إطار النهضة الثقافية والصناعية والعلمية التي حققتها دول مثل اليابان والصين، بل وعدد آخر من دول آسيا الناهضة مثل كوريا وماليزيا وغيرها من دول شرق آسيا. فتلك الدول أقامت نهضتها بالاستعانة بالمنبر الغربي والتقني والمعرفي والعلمي، بوصفه منجزاً إنسانياً في المقام الأول وحافظت في الوقت نفسه على تراثها الثقافي والحضاري، بل وطورته وقدمته للعالم في شكل وسائط أدبية وفنية عديدة استطاعت به أن تعلن للعالم الغربي عن عناصر حضارتها وثقافتها وتاريخها بعيداً عن شبهة الصراع والصدام كما هو شأن المنجز الثقافي الحقيقي على امتداد تاريخه. هذه الملاحظة تكشف أن تعامل الذهنية السودانية مع العولمة ينطلق من داء قديم يحيل السلبيات لأسباب خارجية فقط من دون محاولة القيام بعمليات النقد الذاتي وتقييم الذات بموضوعية على عكس ذهنية الدول النامية الجديدة التي قيّمت نفسها موضوعياً وتعرفت على مناطق قوتها لتكون انطلاقة للمبادرة في الدخول إلى العصر الجديد بمنطق الندية، كما راجعت السلبيات وتعاملت معها برغبة حقيقية في العلاج والمواجهة. متى ندخل عصر العلم: لعل هذا ما يؤكد أن دخول السودان عصر العلم أصبح ضرورة لا غنى عنها بسبب التطورات المذهلة في هذا المنجز من جهة، وبسبب ارتباط العالم بعضه ببعض الآن معرفياً في إطار ظاهرة الانفجار المعرفي عبر وسائل الاتصال الحديثة والفضائيات وشبكة الانترنت. لذلك ينبغي أن تتحمل الوسائط الإعلامية السودانية دورها في إشاعة العلوم والاهتمام بتشجيع الإقبال عليها من جهة، وتضافر الجهود في هذه المراكز البحثية والعلمية والثقافية السودانية في هذا الاتجاه من جهة أخرى، على أن يتم الاهتمام بتشجيع دراستها والإقبال عليها عبر توفير المراكز المتخصصة ثقافياً.. وعلى المراكز العلمية أن تهتم وتزيد ميزانيتها بالشكل الذي يجعل منها مراكز قابلة لملاحقة الإنجاز العلمي العالمي واستقطاب الكفاءات الثقافية والعلمية العالمية جنباً إلى جنب مع توفير سبل الابتعاث العلمي للكفاءات العلمية والفكرية السودانية الشابة. إلا أن توفير المراكز العلمية المتطورة سيخلق مناخاً جاذباً لتلك الكفاءات للعودة والعمل على تطوير أبحاثهم في بيئتهم السودانية مما سيعود بالفائدة على المجتمع من جانب، وعلى المناخ العلمي السوداني من جانب آخر. وأرى أن هذه المرحلة لابد أن تشهد كذلك تضافر البحث العلمي مع الثقافة، بحيث تسهم الأبحاث العلمية المتخصصة في تطوير الثقافة، وهو ما سيؤدي بداية إلى توفير الدراسات الخاصة بالانتاج الإبداعي، وسلوكيات المستهلكين أو المتلقين، حيث تعاني المجتمعات السودانية إجمالاً من الفقر الشديد في هذه الدراسات والتي ينبغي أن تعتمد عليها كل خطط الإنتاج والتخطيط الثقافي. كما أن تضافر البحث العلمي مع الثقافة قد أصبح ضرورياً في ضوء ظهور العديد من الوسائط التقنية الجديدة التي تستخدم في الثقافة وفي الإنتاج الإبداعي والفني، وفي شكل المنتج الفني. ومن بين المستجدات أيضاً شيوع الفضائيات السودانية، مثال منها الشروق وزول والأمل وقوون وهارموني والفضائية السودانية، وما أفرزته من ظواهر جديدة على الثقافة السودانية، بينها محاولة إشاعة ثقافة الحوار عبر البرامج الحوارية المذاعة على الهواء مباشرة، إلا أن غياب ثقافة الحوار لعقود عديدة وما رافقه من مناخات رقابية أو معوقة لحرية التعبير، جعل تلك البرامج تميل للجدلية والاستقطاب على حساب الحوار الموضوعي المتوازن بمفهومه الحقيقي كعرض لآراء طرفين أو أكثر ومبادلة الحجة بالحجة والتي تعبر في النهاية عن رغبة حقيقية في الفهم المشترك. كما أدى تنامي عدد القنوات الفضائية السودانية إلى كثافة شيوع البرامج الترفيهية الخفيفة التي يفتقر أغلبها إلى الحد الأدنى من مقومات الرسالة الإعلامية لخلوها من أي مضامين في ثناياها، بحيث إنها أصبحت تنتمي للعب خالص على حساب البرامج الجادة والمعرفية والمعلوماتية وهو ما يندرج في أزمة الإعلام السطحي الذي تسبب وما زال في تغييب العقل السوداني، في الوقت الذي يحتاج فيه المشاهد أو المتلقي إلى الكثير من الجهد لاستعادة سياسية وتاريخية واجتماعية ورقابية وتعليمية. ومن الظواهر الجديدة أيضاً قضية اللغة العربية التي يمكن ملاحظة ما تتعرض له في بعض الإذاعات الخاصة والفضائيات، من تسطيح وتشويه سواء بانتهاج لغة وسيطة تعتمد على اللهجات الخليجية ولغة «الحناكيش» وهي «تعطيش الجيم» على اللهجة العامية بالكامل، مع إغفال تام لإمكانية اعتماد لغة إعلامية أو صحفية فصيحة تعتمد على عقل وثقافة المواطن. ومن البديهي بطبيعة الحال الإشارة إلى أن هناك منابر أخرى تبذل جهداً في الحفاظ على اللغة، لكنها ذات طابع إخباري. إن تحديث خطط الثقافة مرهون ببذل جهد المثقفين والكتاب كافة للإسهام في بلورتها ومناقشتها ووضع الأطر الواقعية لتحقيقها وتأكيد دورها في ترسيخ قيم الاستنارة كمكون أساسي للذهنية السودانية، فهذا هو ما تعول عليه المجتمعات جميعاً في تطلعها للنهضة الشاملة التي لابد وأن تسهم الثقافة في تسريع إيقاعها وفي انتقالها من حيز الخيال والأماني.. إلى مساحة الواقع والحقائق.