أيام قليلة وتعلن مفوضية الاستفتاء لجنوب السودان نتيجة الاستفتاء على حق تقرير المصير كأهم بند من بنود اتفاقية السلام الشامل، التي تم التوقيع النهائي عليها في نيروبي عام 2005 أمام أعين العالم كواحدة من أعظم الاتفاقيات التي أوقفت نزيفاً من الدماء طيلة خمسين عاماً ويزيد قليلاً، راح ضحيتها أفضل أبناء السودان خُلقاً وعلماً ووطنية.. حرب استنزفت جميع موارد بلادنا، وأرهقت الحكومات المتعددة التي مرت منذ فجر الاستقلال، ومطالب عجزت حكوماتنا الديمقراطية والعسكرية والشمولية على الوفاء بها، وظل الجرح النازف مفتوحاً، وأحوالنا الاقتصادية تتدهور، وأرباح ديوننا تتصاعد، وأبناء بلادنا يهربون إلى الخارج بحثاً عن الحياة الأفضل لهم ولذويهم، بالرغم من امكانات السودان الهائلة وثرواته التي لا تُعد ولا تُحصى.. وموقعه الجغرافي الذي يحسد عليه، وموانئه وشواطئه والكثير من الميزات التي بدأنا تحت سيف الضغوط اللجوء إليها، كما يظهر الآن من الكشف عن الاقتصاد البديل المتمثل في الزراعة في ظل الأسعار المتصاعدة لسلعة القطن، وحاجة العالم إلى الحبوب، والتنقيب عن الذهب الذي أكدت المصادر توفره بصورة اقتصادية، ويمكن أن يكون بديلاً لما سنفقده من عائدات البترول المستكشف في الجنوب بعد إعلان الانفصال، وقيام الدولة الجديدة الذي بات في حكم المؤكد. وفي ظل التحول العظيم لشمال السودان بعد الانفصال للاعتماد على الاقتصاد البديل متمثلاً في ترقية صادراتنا من الحبوب، ونحن نعلم الكميات الكبيرة من الذرة التي أنتجت هذا العام، وهي تفوق طاقتنا الاستهلاكية، بل وطاقتنا التخزينية، والاتجاه الصادق نحو ترشيد زراعة القطن السوداني الشهير في ظل الارتفاع الكبير لأسعاره عالمياً، وتعظيم الثروة الحيوانية وابتكار أساليب جديدة، لذلك بتجنب حركة الرعاة شمالاً وجنوباً والاحتكاكات التاريخية بين الزراع والرعاة، كتلك التي ولدت الصراع في دارفور، وأوجد ذريعة لصناع الحروب والكوارث والأزمات الدولية للتدخل وتحويلها إلى عملية سياسية وفتنة عرقية، كما أفلحت ذات القوى في تحويل قضية الجنوب إلى عرب ضد الأفارقة، ومسلمين ضد المسيحيين، فأصدرت عبر المستعمر الإنجليزي قانون المناطق المقفولة وعزلت الجنوب عن الشمال وأعملت جميع الآليات التي تملكها لترسيخ تلك الأجندة على شعب مسالم ومؤمن وموحد في توجهاته ورؤاه الوطنية، السودان لا يخشى عليه من الإنقسام إلى جنوب وشمال، لأن ذلك كان موجوداً على أرض الواقع ومنذ إصدار ذلك القانون والبدء في حملات التحريض، وتشييد الكنائس، وتغيير أسماء المواليد وإذا تعذر ذلك فوجود اسمين للمولود اسم القبيلة حتى لا يفقد هويته واسم المستعمر المفروض فرضاً حتى لا يكون على المدى البعيد أي شك في أهداف المخطط الاستعماري. فدولة الجنوب التي نعلم جميعاً حكومة ومعارضة وفق مجريات الأمور منذ صدور قانون المناطق المقفولة أعلن قيامها، وكان البحث في كيفية الوصول إلى الغاية.. فاتخذ الغرب ودون أي مبررات مقنعة محاصرة السودان وتجويع شعبه، محاصرة إعلامية، اقتصادية، سياسية، ولكن السودان ظل يقاوم تلك المؤامرة التي استخدم الغرب فيها جميع الأسلحة الداخلية والخارجية الثورات والإنتقاضات تغيرت أنظمة وحكومات دون أن تتحرك قضية الجنوب قيد أنملة.. ثم تجريب الحكم الذاتي في إتفاقية عام 1973 ولكن ظل الحال كما هو، فإذا كانت الحرب التي استمرت نصف قرن لم تؤدِ إلى حل القضية فإن السلام هو الطريق الأمثل لذلك، فكانت اتفاقية السلام التي أوقفت الحرب وتوقف النزيف الاقتصادي ونزيف الدم، وتحرك في شرايين الحياة في البلاد في شكل استقرار وتنمية واستثمار، مهما كان حجمه فإنه يصب إيجاباً على الحياة في السودان.. وبعد أن كانت أوصالنا مقطعة ولا يستطيع الإنسان أن يتحرك بسهولة في أرجاء الوطن، صار التواصل بين أهل السودان سهلاً وممكناً، ولا تتحقق التنمية دون بنيات تحتية فكانت شبكة الطرق الطويلة وشبكات الاتصالات والانتقال إلى عصر التقنيات الحديثة والإعلام الحديث، كل ذلك في ظل ديمقراطية دستورية شارك شعب السودان خلالها في اختيار سلطاته الحاكمة على كل مستويات الحكم، ولابد للمخاوف التي تسعى بعض الجهات السياسية أن تثيرها في وجه الشعب أثر الزيادات التي أقرت في أسعار بعض السلع، وإعلان نتيجة الاستفتاء التي صارت معلومة وحاضرة أن تزول لأن الأسعار زادت عالمياً في جميع أنحاء العالم، بدءً بأمريكا وكافة دول الغرب وانتهاء بالعالم العربي ودول العالم الثالث وأفريقيا تحديداً، فنحن كما ذكرت في مقدمة هذا المقال ولله الحمد والشكر يتمتع اقتصادنا بجذور قوية، تتمثل أولاً بعدم الارتباط باقتصاد الغرب الذي ترنح بصورة يمكن أن تنعكس علينا بصورة مباشرة.. نحن نمتلك الأرض والمنتجات الزراعية والثروة الحيوانية، يعني الماء والكلأ.. وحتى في السلع الغذائية لدينا البدائل الشعبية التي لم نتخطاها كثيراً كما سعى الغرب لذلك، فسلوكنا وثقافتنا الغذائية ما زالت محفوظة ولا تنطبق علينا(حالة نيجيريا) مثلاً التي تعمد الغرب أن يغير سلوكها الاستهلاكي، فغمرها بالقمح الأمريكي في ظل الثروة البترولية الهائلة التي اكتشفت في نيجريا التي ما زالت ترزح تحت ظل الفقر والصراعات، وتركت الزراعة التي كانت تحقق لها الكفاية الغذائية.. وكما ذكرت بعض قيادات الحركة الشعبية.. انفصال في ظل سلام وحوار وطرق ديمقراطية أيا كان شكلها أفضل من انفصال في ظل حرب وقتال ودماء.