موجة حزن طاغية سيطرت على مشاعري وأنا أتابع تطورات الأحداث المأساوية التي تشهدها مصر«أم الدنيا» كما يحب أهلها أن يلقبوها. ما يحدث في مصر يفوق كل خيال ويتجاوز كل توقع، الشعب المصري خيَّب تقييمات وتنبؤات كل المشككين في عزمة وقوة إرادته، وأسقط إلى الأبد تخرصات القائلين بإنه شعب مستسلم وخانع ومستكين - ولأنه كذلك- فهو يستحق أن يحكم بمن يحكمونه بالحديد والنار والقمع والاضطهاد والفساد، ولكن هاهو اليوم يفاجئ الجميع ويعلن للعالم كله أنه أقوى وأكبر مما يعتقدون، وأنه شعب معلم، هاهو يعتلي منصة الرفض والتمرد ويصدع بإراداته الحازمة في الحياة الحرة الكريمة، ويقدم الشهيد تلو الشهيد من شبابه عربوناً للانعتاق والتحرير دون أن يلوي على شيء .. شعب بلغت به الشجاعة أن لا يخاف بعضه حتى على صغاره وأطفاله فيأتي بهم إلى مواقع التجمهر، حيث الرصاص الحي والمطاطي والقنابل المسيلة للدموع، ليكونوا شهداء على ثورة الشعب، فأنعم به من شعب، استحق ما فاخر به شاعره الشعبي الأشهر أحمد نجم الليلة الماضية وهو يحدث قناة الجزيرة : ياست الكل يازهرة.. صباح الخير على ولادك!. مصدر حزني هو هذا الثمن الكبير الذي تدفعه مصر من أجل التغيير، ثمن كبير من أرواح شبابها ومن منشآتها وثرواتها التي تتعرض بشكل غير مسبوق للنهب والتخريب والحرائق، فيما بدأ معه أن الحاكمين المحشورين في الزاوية الضيِّقة يعدون لسيناريو «الفوضى المدمرة» بتدبير يستهدف إذاقة الشعب «طعم الفوضى»، حتى يعود طائعاً مختاراً ليضع يديه في القيد من جديد، وإلا ما معنى هذه الدبابات والمدرعات «المشلولة» للجيش، التي تمركزت في بعض الأنحاء وحول المنشآت الحيوية والتي لم تتمكن حتى من حماية المتحف الوطني - ذاكرة مصر والإنسانية جمعاء- في ميدان التحرير من التخريب والاعتداء، وربما هو أكثر لولا لطف الله، سيناريو صدع البعض من الجمهور والمراقبين بأنه من ترتيب عناصر تنتمي للأمن والشرطة، رأت أن تورط البلاد فيه على «النمط التونسي»، ليقولوا للشعب الثائر إذا أردتم أن تنقذوا بلدكم من الفوضى عليكم أن تقبلوا بما قرره وأعلنه الرئيس بتعيين نائب له - للمرة الأولى بعد ثلاثين عاماً في الحكم- هو رجل النظام القوى اللواء عمر سليمان، وبتعيين رئيس وزراء جديد هو الفريق أحمد شفيق قائد سلاح الطيرن والوزير السابق ومدير هيئة الطيران المدني، تأكيداً لاستمرار النظام برموزه ووجوهه القديمة والمعروفة، وكما قلنا بلأمس فإن الرئيس مبارك اختصر أمر التغيير كله في إقالة حكومة وتعيين أخرى، بينما الشارع المصري في كل حواضره وبنادره يطالب بتغيير جذري ورحيل النظام كله بما فيه الرئيس نفسه. فعلى عكس ما توقع الرئيس مبارك ومعاونوه فإن خطوته بتعيين نائب له ورئيس للوزراء زادت لهيب الانتفاضة اشتعالاً، وأعلن شبابها على الملأ أن هذا أقل من المطلوب وأقل من الثمن الذي دفعه الشعب في سبيل التخلص من نظام أذاقهم حياة الذل والمسكنة، ولم يعودوا يحتملون المزيد، وأبرز دليل على هذا أنه لا أحد منهم التزم أو التفت إلى قرار حظر التجول الذي وسعت ساعاته «السبت» ليبدأ من الرابعة عصراً وحتى السابعة من صباح اليوم التالي، وبما أن الجيش الذي نزل بعضه إلى الشوارع لم يبد حراكاً في مواجهة المخربين المندسين في صفوف المتظاهرين، أو أولئك الذين يتجهون لكسر وتخريب ونهب المحلات التجارية ويشعلون النيران كيفما اتفق لهم، فقد شكل المواطنون في أحياء القاهرة وفي الأسكندرية والسويس والإسماعيلية والمنصورة لجاناً شعبية لمقاومة هؤلاء المخربين والمجرمين، الذين أُطلقوا من سجون مصر الشهيرة كأبوزعبل وليمان طرة حتى يعيثوا في الأرض فساداً ونهباً وتخريباً. والجيش الذي يتمتع بسمعة طيبة في أوساط المصريين وجد نفسه في مأزق حرج، فلا هو قادر أو راغب في قمع المحتجين، فتلك خطوة مدمرة لهيبته وتأريخه الوطني وتُصنِّفه مباشرة «كجيش للنظام» وليس للوطن، كما أنه في الوقت ذاته يجد صعوبة بالغة بحكم تدريبه في القيام بمهام حفظ الأمن المدني، التي هي مسؤولية الشرطة التي انسحبت من ممارسة مهامها، بعد أن أصطدمت مع الجمهور وتمركزت في وزارة الداخلية وأسطح المنازل المحيطة بها لتمطر المتظاهرين الغاضبين على وزير الداخلية حبيب العادلي ورجاله بالرصاص الحي فأسقطت العشرات من القتلى والمئات من الجرحى خلال يوم أمس وليله ليتصاعد عدد الضحايا وتتضاعف المأساة الفاجعة. الدعوة لرحيل النظام وتغييره لم تقتصر على الشباب الثائر وحده، بل تجاوبت معها نخب مصرية مشهورة ومعروفة على مستوى العالم، منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ يوسف القرضاوي رئيس هيئة علماء المسلمين، والدكتور أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل للسلام في علوم الفيزياء لاكتشافه ل «للفيمتو ثانية»، والدكتور محمد البرادعي المدير السابق لهيئة الطاقة الذرية والحائز على جائزة نوبل للسلام أيضاً ورئيس «الجمعية الوطنية للتغيير»، والدكتور عمرو حمزاوي كبير باحثي الشرق الأوسط بمعهد كارينغي، ومامون فندي الصحافي المشهور بالولايات المتحدة، ومحمد السطوحي الباحث والكاتب المعروف المقيم في العاصمة الأمريكية أيضاً، فكل هؤلاء وغيرهم كثير لا يرى مخرجاً للأزمة المصرية الراهنة إلا برحيل النظام، وأوضح هذا الأخير «السطوحي» نقطة مهمة، وهي أن النظام كان يستخدم حركة الأخوان المسلمين «كفزاعة» ليضع الشعب المصري وحلفاءه الأمريكيين والغربيين أمام خيارين لا ثالث لهما، إما استمرار النظام الحاكم بكل ما عليه من مآخذ أو استيلاء «الأخوان» على الحكم ليحولوا مصر إلى «نظام ديني» شبيه بذلك القائم في إيران، لكن السطوحي رأى الخدعة التي تنطوي عليها هذه «الفزاعة»، فمن جهة فإن حركة الأخوان المسلمين برغم حجمها المقدر والمهم إلا أنها لا تمثل أغلبية الشعب المصري، ومن جهة أخرى فهي حركة تعلمت من تجربتها أن تميل نحو «الوسطية» وتؤمن بالتبادل السلمي للسلطة وليس الاستيلاء عليها بالقوة. الظاهرة المهمة الأخرى التي استدعت انتباه الفضائيات الأخبارية أمس أيضاً، هي ظاهرة هروب العديد ممن يعتبرون من رموز النظام وأزلامه ورجال أعماله المتهمين بالفساد، وأوردت الفضائيات - من دون تأكيدات حاسمة- أسماء العديد من تلك الرموز وعائلاتهم ، ولكن إذا ما صحت تلك الأنباء فهي تشير من دون شك إلى أن هؤلاء الأثرياء المتنفذين استشعروا دنو أجل النظام ورجحوا احتمالات غرق مركبة فقرروا القفز منها والنجاة بأنفسهم قبل فوات الأوان!. ومع ذلك تبدو الانتفاضة المصرية حتى الآن «بلا رأس» أو قيادة أو «برنامج سياسي» مفصل تتحرك وفقاً له كبديل مؤطر للنظام الذي تعمل على إسقاطه، اللهم إلا قيادات صغيرة وشابة ظهرت على شاشات الانترنت كحركة «16 أبريل» التي تتصدرها الشابة المصرية إسراء عبد الفتاح، أو «الجمعية الوطنية للتغيير» التي يقودها الدكتور محمد البرادعي، كما أن الأحزاب السياسية ذات الوجود الشرعي موجودة وتتحرك ولكنها لم تتقدم حتى الآن لتتصدر المشهد، ربما خشية على شرعيتها، وكذلك يتحدث الأخوان المسلمون المحظورون من جانب السلطة. ولكن في العموم لم تتبلور قيادة شرعية ومعترف بها من قبل الشباب، وربما ذلك ما دفع النظام للتباطؤ والمراهنة على الزمن الذي يستنفذ طاقة الشباب وقوة الاندفاع لديهم، ليقبلوا في النهاية باستمراره حتى برموزه القديمة، برغم ما ينطوي عليه ذلك التباطؤ من مخاطر جمة قد تقود إلى مزيد من الضحايا والدمار والخراب المادي، والانتقال لما يشبه الحرب الأهلية.. وليس في وسعنا إلا أن ندعو بدعوة أهل مصر الراتبة التي تنبئ عن حبهم، بل عشقهم اللامحدود ل«أم الدنيا»: ربنا يجعلك عمار يامصر.