هذا وطن لا تنقضي عجائبه، ولا يستفيد أصحاب القرار فيه من كثرة التنبيه وتكرار الملاحظات، خصوصاً في ما يتصل بمعضلته الأساسية التي نسميها «المسألة الزراعية»، والتي يتوقفُ على حلها نهوضه ووقوفه على رجليه وانطلاقه في آفاق التقدم والرشاد، مثله مثل الأمم التي احتلت مواقعها الصحيحة تحت الشمس وفي خريطة العالم. صدمني في أخبار السبت، خبر جاء يؤكد أخباراً ترددت خلال الأسبوع الماضي، استوقفتني وفزعت بآمالي أن لا تكون صحيحة، أو مجرد اقتراحات قد لا تجد طريقها للتنفيذ. الخبر مصدره اجتماع لغرفة الدواجن بولاية الخرطوم ووزارة المالية والتخطيط الاقتصادي وبنك السودان المركزي، ويقول إن وزير المالية وجه باستيراد (200) ألف طن من الأعلاف والهدف هو تخفيض أسعار الدواجن بالولاية إلى (7) جنيهات للكيلو جرام الواحد. وكانت الأخبار التي طالعتها من قبل عن استيراد الأعلاف تتحدث عن «الذرة الشامية» التي يحتاج طحينها منتجو الدواجن لتغذية دواجنهم «اللاحمة والبيّاضة»!! وليس فقط الفايتمينات أو مركبات الهورمونات التي تدخل في إنتاج الدواجن. تصور معي - قارئي الكريم - أن السودان يعجز حتى عن إنتاج مائتي ألف طن من الذرة الشامية على شواطئ النيل الممتدة من نمولي إلى حلفا، محصول لا يحتاج أكثر من حراثة الأرض وبذر البذور وريها بالماء الوفير، محصول كان أهلنا ينتجون منه في الجزر التي تظهر في النيل آلاف الأطنان بمجهودات فردية، كان كل ما يفعلونه هو كشط الطبقة الجافة للأرض «بالطورية» وغرز «الكربون» - عودٌ مسنون - على الحفرة التي صنعتها الطورية وبذر البذور، ثم العودة بعد أيام قليلة لتنظيف الحشائش الطفيلية، وانتظار شهور قليلة لا تتجاوز الثلاثة لجني المحصول وقناديله المستطابة ذات اللون الذهبي. هكذا كان يفعل السودانيون على شواطئ النيل في «جروفه وجزره». أما الآن وقد توافر لدينا الري الدائم والقنوات الممتدة لمئات الأميال في الجزيرة والرهد والنيل الأبيض والشمالية - بعد قيام سد مروي - فبدلاً من استغلال الموسم الشتوي الذي تناسب أجواؤه زراعة الذرة الشامية والقمح، والكثير من المحصولات البستانية التي يمكن أن تصبح أعلافاً طبيعية للدواجن وغير الدواجن من مصادر اللحوم البيضاء والحمراء، يذهب تفكيرنا و«تخطيطنا» لحل مشكلة ندرة الأعلاف إلى استيراد مئات الآلاف من الأطنان من الخارج. والهدف (المعلن) هو تخفيض الأسعار، بحيث يصبح سعر كيلو الدواجن (7) جنيهات، وكان آخر مرة اشتريت الدواجن دفعت (10) جنيهات لقاء الكيلو من إنتاج شركة الهيئة العربية. ومع ذلك، نظمت وزارة الزراعة والثروة الحيوانية جولة ميدانية صحبت فيها وزير المالية ومسؤولين آخرين، هدفت وفق الخبر المذكور إلى «إنفاذ سياسة حكومة الولاية لتأمين الغذاء بزراعة المحصولات النوعية، واستصحاب التقانات التي شملت عدداً من المشروعات الزراعية ومجلس الألبان الآلي التابع لمشروع دال الزراعي، الذي تبلغ طاقته الإنتاجية (135) ألف لتر من الألبان الطازجة في اليوم». نقرأ هذا، مثلما نقرأ قبل أيام الجدل الدائر حول مساواة الأسعار بين الألبان الجافة كاملة الدسم ومنزوعته، وهي الألبان (المستوردة طبعاً). لماذا نستورد الألبان مثلما قررنا استيراد الأعلاف؟! لا أحد يملك الإجابة من صناع القرار، سوى أننا نمر بمواسم محل وجفاف لم نتحسب لها، بينما نغط في نوم عميق على شواطئ أطول نهر في العالم هذا غير الأنهر الفرعية التي تغذيه وتشق أخصب الأراضي، الأمر الذي يغبطنا عليه العالم. إن حكاية استيراد الأعلاف والألبان، حكاية يجب أن نسكت عليها، ولا نعلنها في أجهزة الإعلام وصفحات الصحف لأنها - بصراحة شديدة - حكاية تدعو ل«الخجل» ولا تنبئ عن أي حرص على خفض تكلفة المعيشة أو تيْسير حياة المواطن، بل على العكس، فمهما كانت قيمة العلف واللبن المستورد، فهي لن تضاهي رخص المنتج محلياً إذا يسرت الحكومة عمليات التمويل ورعت المنتجين بالإرشاد الزراعي الصحيح وتوفير البذور المحسنة. والأهم من ذلك فإن اللجوء إلى استيراد محصولات يمكن إنتاجها محلياً، سوف يساهم - بقصد أو بدونه - في القعود بهمة الدولة والمنتجين، بحيث يصبح الجميع عالة على الاسيتراد بالقليل المتوافر من صادرات النفط والمحصولات النقدية الأخرى كالحبوب الزيتية والمواشي. ونختم بالقول: ازرعوا الأعلاف وصدروها وصنعوا الألبان ولا تستوردوها، فالدولة التي لا تطعم أهلها مصيرها الاضطراب والقلاقل إن لم يكن الفشل الكامل.