مساحة حرة: د. محمد الامين الغبشاوي قبل فترة من الزمان قد تصل إلى سبعين عاماً أو تزيد، وعلى أيام طفولتنا كانت هناك (زفتان) بمناسبتين دينتين تقامان في بلدنا سنوياً، هما (زفة) شهر رمضان المبارك فتقام في آخر يوم من أيام شهر شعبان احتفالاً بقدوم شهر رمضان الميمون، أما (الزفة) الثانية فتكون عصر يوم (ختمة) ليالي المولد النبوي الشريف.. وكان هم الواحد منا على صغر أعمارنا، ألا يفوتنا الاشتراك في هاتين المناسبتين، وأهم وسيلة لذلك هو أن يجد الواحد منا (حماراً).. أو (جحشاً) يمتطيه في تلك المناسبة، وكانت تسكن في حوش قريب من بيتنا (جدة) فاضلة طيبة الأخلاق تنتمي إلى أسرة كريمة، وكانت تلك العجوز الطيبة تعطف عليَّ كثيراً وتطلق عليّ لقب (الحوار)، وكانت رحمها الله لها حمار (دَبَّلو) أو (عتباوي) وهو يطلق-لا مؤاخذة- على الحمار العنيد الذي لا يريح ظهره، ومع ذلك كانت تلك الجدة تؤثرني بحمارها على أحفادها، رغم أنهم كانوا أكبر مني سناً، وأشد مني قوة. وكانت (الزفة) وأعني بذلك (زفة) المولد، تبدأ عصر اليوم من أمام مبنى (الضابطية) أو (المركز) في أقصى الجهة الشمالية من مدينة (بربر) يتقدمها (المأمور)، ثم ضابط البوليس، ثم رجال الشرطة ببنادقهم العتيقة ويسير أمامهم ضابطهم ممطياً صهوة جواده وهم يرددون جلالاتهم (الدائم دائم الله، الدائم كريم الله)، ثم يأتي موكب (الطرق الصوفية) الهادر بأعلامهم وطبولهم وأناشيدهم وشاراتهم، يتقدمهم على جواده المزخرف والمزركش (الشريف المجمر) من أشراف (الحقاب) بمنطقة (نقزو) ويقود جواد الزفة والناس حوله (المواطن سند) ولا يترك ذلك الشرف لأي من المواطنين غيره، ثم يليهم راكبو الجمال والحمير وبعدهم المشاة أو كما يقال عنهم (أبو رجيلة)، ويعلن عن بداية تحرك موكب الزفة بضرب العم (علي الصادق المسعداني) (النوبة) ضرباً عالياً، ثم تبدأ المسيرة على بركة الله.. مخترقة السوق الذي يكون عادة مغلقاً بهذه المناسبة، وينضم إلى (الزفة) في الطريق الكثيرون من المواطنين، بينما تقوم النسوة بالزغاريد والمدائح والدعوات والتبريك، وعندما تصل الزفة إلى مكتب البريد وكان أمامه (كشك) تاريخي أثري، تقف الزفة ريثما تسترد أنفاسها ثم تستأنف مسيرها في الشارع الذي يبدأ بزاوية (التجانية) ودار آل قصيصة، وكلما تقدمت (الزفة) في سيرها، علت أصوات الدفوف والتهليل والتكبير ودقات الطبول، وثار الغبار وازداد عدد المنضمين إلى (الزفة) وكثر عدد الدراويش. وكان عدد من المواطنين يعدون أمام منازلهم في طريق (الزفة)، براميل وجرادل مليئة بالماء ليشرب منها أهل الموكب، حتى إذا انتهى الموكب في سيره إلى آخر المدينة جنوباً وهو الخور الفاصل بين (المخيرف) بربر القديمة.. وبربر الجديدة، عاد أدراجه بالشارع الغربي مخترقاً سوق(الدكة) وحي (الحبَّالة) في طريقه إلى ميدان المولد النبوي الشريف شمال الجامع الكبير، وفي كل تلك الأماكن كان يقابل بمثل ما استقبل به من الحفاوة والتكريم، وحول(بيرق الصاوي) في ساحة المولد يكون هناك تجمع كبير في انتظار وصول (الزفة)، وعادة ما يكون المستقبلون القاضي الشرعي ومشايخ (الطرق الصوفية) والشيخ ابن إدريس أحمد حميدة إمام المسجد الكبير، والشيخ سراج الدين محمد السيد من العلماء، والشيخ محمد محمد صالح من أقطاب (الطريقة التجانية)، والخليفتان الكبيران من رجال الطريقة الختمية (عثمان الغبوشي وعثمان علي كلمون) واللذان منحهما الله أصواتاً كمزمار داؤد، وكان يقف من خلفهم جماعة يطلق عليهم صفة (النقباء) لهم زي مميز يسمى (العنتري)، وما أن تنتهي (الزفة) إلى حلقة (الصاري) والذي علقت عليه بعض (الفوانيس)، حتى ينصرف الجانب الرسمي بعد أداء التحية العسكرية، ويبقى الآخرون يمدحون وينشدون ويستمعون ويطربون من ألحان (الموصلين) (العثمانيين) ويرددون: ولد الحبيب ومثله لا يولد في شهر ربيع صلى عليه الأوحد ويظل الجمع الحاشد يرددون معهم في فرح ونشوة وسرور.. وما يكاد البلبلان الصيدحان ينتهيان من إنشادهما ذاك، حتى يعلو صوت المؤذن (شيخ محمد) الرخيم من على مئذنة المسجد وهو ينادي- بالمكبر صوت- على صلاة المغرب، فيخف الجميع لأدائها وهم يرددون (ما أحلى لياليك يا نبي). وتستمر سهرة ليلة الختمة حتى مطلع الفجر. والمحظوظ منا من كانت لديه(تحويشة) من بعض الملاليم عملة السلطان(حسين كامل)، يقصد بها إلى تربيزة العم (ود خالد) ليشتري بها شيئاً غير قليل من الحلوى التي ترد لنا من مصر حتى لا يخرج (من المولد بدون حمص).. ونضر الله تلك الأيام الطيبات.. وكل عام وأنتم بخير.