الجمهورية الثانية التي أعلن ميلادها نائب رئيس الجمهورية في المؤتمر الصحافي الاثنين الماضي، وحدد لصرخة الميلاد التاسع من يوليو موعد إعلان استقلال جنوب السودان ونهاية حقبة وطن كان أهله يدعونه بالأسمر طويل الباع وبعملاق أفريقيا قبل أن يخر العملاق وينقسم لدولتين، والجمهورية التي أعلنها نائب الرئيس أخذت قيادات المؤتمر الوطني تجتر ذكراها وتتغزل في هلامية مضمون الجمهورية التي لم يتفق بعد حتى على حدودها.. وكم تبلغ مساحتها.. وهل هي جمهورية متعددة الثقافات والهويات.. أم هي جمهورية الهوية الواحدة (عربية إسلامية) هي عند الطيب مصطفى ومن شايعه.. أم هي جمهورية العرب والفور والزغاوة والمحس والنوبة والدناقلة والبجة والبقارة وجمهورية المسلم والمسيحي الأسود والأسمر العربي و(الرطاني) كما تدعو الأغلبية.. وسارت بمصطلح الجمهورية الثانية أفواه السياسيين وأقلام الكتاب يمنون النفس بجمهورية ثانية أو سودان جديد . لم يشأ النائب علي عثمان بقدراته الفكرية وتجربته السياسية التي أكسبته بلاغة في الكلام والتوصيف، أن يجيب على سؤال عن تكوين الجمهورية وما مدى قربها من حيث الهياكل والمحتوى من الجمهورية الثانية في فرنسا وجمهورية كمال أتاتورك في تركيا أو الدولة السعودية الثانية.. .. وهل نحن مقبلون حقاً على تغيرات كبيرة أم مجرد طلاء لواجهات الدولة القديمة وتزيين أبوابها وتحسين نوافذها ونولي مدبرين من استحقاقات الدولة الثانية الحقيقية المتمثلة في إقرار نظام ديمقراطي تعددي يستجيب لمطالب الأطراف قبل مطالب الأحزاب السياسية وتوطين ديمقراطية بثوابت متفق عليها.. ونهوض دولة يستمد إنسانها حقوقه من المواطنة.. دولة لا يسأل طالب الوظيفة عن قبيلته وإقليمه الذي انحدر منه .. دولة لا يستقبل رئيسها مجلس شورى قبلي ولا جهوي.. دولة لا تصوب الشرطة أو الجيش بنادقها إلا نحو العدو الخارجي ودولة لا يذهب معارضوها للسفارات طلباً للمال وكشف أسرار الحال.. ودولة تتصالح مع النفس والآخرين. ü في المؤتمر الصحافي لنائب رئيس الجمهورية الاثنين الماضي، لم يطلب (الرفيق) القديم وأستاذ الأجيال في الصحافة السودانية سؤالاً لنائب الرئيس، ولكن د. كمال عبيد وزير الإعلام (تفضل) من عنده ومنح آخر فرصة لأسئلة الصحافيين لشيخهم (محجوب) الذي قال لوزير الإعلام أنا لم أطلب الفرصة ولما جاءت منحة من الوزير فإن المؤتمر الصحافي فرصة للحوار حول الحريات ولماذا تزامنت مع المظاهرات التي اندلعت في أم درمان هجمة على الحريات بمصادرة الصحف بعد طباعتها.. ومتى تكف الدولة عن هذا السلوك، ولكن الأستاذ علي عثمان محمد طه قال بثقة في نفسه ونظامه «دولة تخشى الحريات لا مستقبل لها»!! لكن الجمهورية الثانية التي حدد لميلادها التاسع من يوليو القادم تواجهها عقبات ميلاد حقيقية لم يجب عليها النائب في المؤتمر الصحافي وآثر وزير الإعلام السير في المياه الدافئة وتوزيع فرص الأسئلة بما لا يعكر صفو الصباح الباهي، فكان نصيب الدكتور الباقر أحمد عبدالله رئيس مجلس إدارة صحيفة الخرطوم من حظ رئيس التحرير فضل الله محمد، رغم أن الباقر سياسي يجيد الخطابة وغادر محطة الكتابة الصحافية منذ سنوات، لذلك لم يسأل د. الباقر عن ما في الصدور.. هل الفترة الانتقالية المتبقية من فبراير الجاري وحتى التاسع من يوليو القادم كفيلة بفض المشكلات التي أقعدت بقطار الشراكة لست سنوات؟.. وهل انقسام السودان لدولتين عامل دفع إيجابي في التسريع بحل القضايا العالقة أم (تعقيدها) أكثر مما هي عليه الآن.. والبروفيسور عبدالله عبدالصادق يعترف جهراً أن لجنة ترسيم الحدود تعطل عملها لمدة (6) أشهر لخلاف في تفسير كلمة إنجليزية واحدة.. وأن أربع مناطق حدودية يشتجر الخلاف حولهما.. ومن بين تلك المناطق بطبيعة الحال (منطقة أبيي) الشيطان الذي يتربص بالدولة الشمالية والجنوبية!! حلول بالأيدي أم الأسنان؟ ü الجمهورية الثانية تواجهها مصاعب حل أزمات ومشاكل الجمهورية الأولى من رهق الحرب في دارفور التي يمثل استمرارها فشلاً ذريعاً للنخب الحاكمة والمعارضة المسلحة التي خرجت من عباءة التنظيم الإسلامي الحاكم وخرج البعض الآخر من صف المعارضة المدنية.. وخلال الستة أشهر الانتقالية التي تنتهي في التاسع من يوليو، تواجه الحكومة الحالية معضلات الحدود وأبيي وتقسيم التركة والديون وتوطين (15) ألف طالب وأستاذ جامعي في جامعات بديلة بالشمال، كما تواجه حكومة الجنوب مشكلة سد النقص المتوقع في الخدمة المدنية والتعليم العام والعالي بعد سحب الوجود الشمالي من الجنوب الذي بدأت قيادته السياسية أكثر واقعية ومسؤولية وهي تتصرف بعقلانية وتكبح جماح مشاعر البهجة والاحتفاء بنتائج الاستفتاء حفاظاً على مشاعر الشماليين الذين استقبلوا الانفصال بهدوء وعقلانية رغم مشاعر الحزن.. والحلول التي استخدمت فيها الأيدي، خير من الحلول التي تستخدم فيها الأسنان خاصة من جهة الشمال، إذ إن نصف الجنوبيين يمارسون تقاليد نزع الأسنان الأمامية كتقليد له علاقة بثقافة المجموعات النيلية من الدينكا والنوير والشلك!! دولة الرقابة أم الكرتون؟ ü تتساقط الأنظمة غير الديمقراطية بقناعة الجماهير بفسادها وضررها وعدم جدوى بقائها، ولا تتماسك الدولة ببأس وقوة «دركها» من الشرطة والأمن، والجمهورية التي أطلق الدعوة لها النائب علي عثمان سواء كانت ثانية حسب ما دعا عثمان.. أو ثالثة كما زعم د. خالد التجاني.. فإن للجمهورية القادمة شروط وجوب، أولها تجديد الأحزاب لنفسها قبل أن تطالب الدولة بتحديد هرمها الأعلى والتراضي على دستور يجعل من المؤسسات المنتخبة من قبل الشعب، مؤسسات حقيقية وليست كرتونية كما تشتهي الحكومات، فالبرلمان القومي المنتخب من قبل الشعب إذا اقتصر نفسه في مهام صغيرة بإجازة المشروعات التي يقدمها الجهاز التنفيذي والإشادة بخطابات الرئيس وكل من يأتي من الجهاز التنفيذي، تصبح المؤسسة التشريعية كالوردة بلا عطر.. وهيكلاً بلا مضمون ويحتقرها الشعب السوداني ولا يوقر حتى أعضائها ويعتبرهم رجالاً بيض الثياب طوال اللحي، لكنهم يقفون بمنآى عن قضايا الشعب لعجزهم عن محاسبة الوزراء وإقالتهم، فالحكومة حينما تجعل نفسها حامياً للوزراء ويصبح البرلمان مدافعاً عن الجهاز التنفيذي، (ينطبق) عليه وصف المؤسسة الكرتونية.. ومن موجبات الجمهورية القادمة أن يطلق حزب المؤتمر الوطني أيدي نوابه في البرلمان القومي لمحاسبة الجهاز التنفيذي ولن يستطيع البرلمان محاسبة الوزراء في غياب الوزير الأول أو رئيس مجلس الوزراء ولن تسقط الحكومة أو يفقد الرئيس شرعيته إذا أقال البرلمان وزير الصحة بسبب تفشي الأمراض الوبائية وتكسب التجربة سياسياً إذا أقال البرلمان وزير الطاقة والتعدين لتقديمه معلومات مضللة عن إنتاج البترول في مربع (6)، ولكن الجمهورية التي تعيش أيامها الأخيرة جعلت من البرلمان القومي شيئاً «عجيباً».. تناقش القضايا في الهيئة البرلمانية في الحزب ويخشى المؤتمر الوطني مناقشة القضايا الحساسة في قبة البرلمان خوفاً من نواب الحركة الشعبية و(3) من نواب حزب المؤتمر الشعبي الذين جاء بهم د. الحاج آدم يوسف من جنوب دارفور.. ü الجمهورية الثانية لن يصبح ميلادها حدثاً يستحق الاحتفاء إذا كانت المجالس التشريعية في الولايات لا تحاسب حتى معتمد الرئاسة في الولاية!!.. ولذلك يطغى الولاة ويتجبرون في الأرض ويعيثون الفساد ولا يردعهم إلا من بيدهم المال الشهري الذي يغذي شرايين الولايات من الخزانة المركزية.. ولا يستطيع والٍ الاحتجاج عن كيفية تقسيم الدعم القومي كما حدث لوالي جنوب دارفور د. عبدالحميد موسى كاشا الذي ندم و(سف التراب) على احتجاجه المشروع على السلطة في الخرطوم.. ü والدعوة لتجديد القيادات في صفوف الدولة والمؤتمر الوطني تصبح دعوة أقرب للترف إذا كان التجديد لا يشمل ثوابت الحكم منذ (20) عاماً، وإذا كان التجديد الذي دعا إليه علي عثمان محمد طه في المؤتمر الوطني يمثل امتداداً للتجديد الذي حدث في الحكومة بعد الانتخابات بدخول وجوه جديدة من الشباب مثل حاج ماجد سوار وكمال حسن علي والمهندس عبدالواحد يوسف والدكتور فضل الله عبدالله وسناء حمد وفيصل حماد، فإن هذا التجديد لم يتجاوز الصفوف الخلفية في الجهاز التنفيذي.. وكيف نتحدث عن تجديد ووزراء مثل الفريق عبدالرحيم محمد حسين والفريق بكري حسن صالح ود. عوض أحمد الجاز وكمال علي محمد ود. نافع علي نافع وعلي عثمان محمد طه وعمر البشير في مواقعهم منذ 20 عاماً، وإذا تحدث أحد عن من هو خليفة الرئيس البشير القادم وصموه بالجنون والطابور الخامس إن لم يقل عنه «مؤتمر شعبي»، وقد اضطر الرئيس حسني مبارك لتعيين مدير جهاز مخابرات نائباً له تحت وطأة التهديد بالرحيل، وحينما لم يستجب الشارع جعل من قواته الخاصة «جنجويداً» يهاجمون العاصمة بالخيول والجمال.. واضطر علي عبدالله صالح لإعلان رحيله عن السلطة في عام 2013م، ولكن الخرطوم والجمهورية الثانية إن لم تعتبر بهؤلاء لحسبتها من الغافلين!!