عندما تمثل هذه الصحيفة للطبع تمهيداً للصدور صباح اليوم، تكون مصر قد شهدت تطورات درامية في أحد اتجاهين: إما بدء انهيار النظام الحاكم بالاستجابة لمطلب المحتجين برحيل الرئيس مبارك، أو تمكنه من الثبات والاستمرار بشكل من الأشكال عبر بعض السيناريوهات التي تعتمل في داخله الآن، بتفويض سلطات الرئيس أو بعضها لنائبه عمر سليمان مع بقائه في السلطة ولو بصورة «رمزية» تضفي على عملية الانتقال قدراً من حفظ الكرامة للرئيس حسني مبارك، وتفتح مسارب للحوار والإصلاح التدريجي لكل العلل التي دفعت الشعب للانتفاض والمطالبة بالتغيير. نكتب الآن والمشهد في «ميدان التحرير» - مركز الانتفاضة- يؤكد تقاطر الآلاف من المتظاهرين من كل أنحاء القاهرة، وربما من خارجها، حتى فاضت الساحة الرئيسية للميدان بالمحتجين، الذين اضطروا للتجمهر على مداخل الطرق الكثيرة المتجهة إليه، وذلك استعداداً لإنجاح الوثبة الكبرى في الجمعة الثانية التي أطلقوا عليها «جمعة الرحيل» ابتداءً، وعدلوها قليلاً لتصبح «جمعة الوفاء» كما قالت بعض الأنباء. لكن من المهم رصد الوقائع والأحداث والتصريحات الصادرة يوم الخميس في أعقاب غارة «الأربعاء»، التي نفذها من وصفوا بمؤيدي الرئيس مبارك من الخيَّالة والجمَّالة القادمين من «نزلة السمان» جوار أهرامات الجيزة، ومن «البلطجية» و «الأمنجية» الذين قيل إنهم خلعوا ملابسهم الرسمية وارتدوا الملابس المدنية واعتلوا سطوح البنايات المحيطة بميدان التحرير، فأمطروا المتظاهرين بالرصاص الحي وقنابل الملوتوف والقنابل المسيلة للدموع، والذين لم ينجُ من هجماتهم حتى الصحافيين والإعلاميين الذين يغطون الأحداث، والذين اضطر معظمهم إلى مغادرة البلاد أو الاكتفاء بالمكوث في فنادقهم أو مكاتبهم. أهم الوقائع والأحداث والتصريحات التي توفر تصوراً أولياً للقاريء حول اتجاه التطورات المنتظرة يمكن رصدها في التالي: ü إدانة شبه إجماعية لأعمال الخيالة والجمالة والبلطجية، التي أزهقت عشرات الأرواح وجرحت ربما المئات إن لم يكن الآلاف، صدرت هذه الإدانة من نائب الرئيس عمر سليمان ورئيس الوزراء أحمد شفيق الذي أعلن عن اعتذاره للشعب علناً أكثر من مرة خلال ظهوره في أول مؤتمر صحفي له، مع إصدار توجيهات لوزير الداخلية بعدم السماح بالتعرض للمتظاهرين والاعتداء عليهم في احتجاجات الجمعة المرتقبة، وعلى المستوى الدولي صدرت الإدانة من الولاياتالمتحدة على لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومن الناطق باسم البيت الأبيض روبرت غيبس ومن بعض رجالات الكونغرس ومن الاتحاد الأوروبي، بل امتدت تلك الإدانة إلى الرئيس مبارك الذي عبَّر عن حزنه، خلال حديث مع مذيعة إي بي سي (ABC) الأمريكية كرستيانا ماينور، عن حزنه لأن يرى دماء المصريين تسيل بأيدي مصريين آخرين. ü نائب الرئيس عمر سليمان المكلف من قبل الرئيس مبارك بالحوار مع القوى السياسية المعارضة طلب من المتظاهرين العودة إلى بيوتهم من أجل إعطاء فرصة للحوار، وهو طلب اعتبره المعارضون بمثابة محاولة التفاف، لأنه طلب غير مشفوع بأية ضمانات تؤكد أن الحوار سينتهي بالاستجابة لمطالبهم ، وأهمها رحيل النظام نفسه، وليس فقط رحيل الرئيس. ü في حديثه ل«إى بي سي»، عبَّر الرئيس عن رغبته في الرحيل، وأنه فاض به الكيل بعد ثلاثين سنة من الحكم، ولكنه يرى أن من شأن ذلك انزلاق البلاد إلى الفوضى، ويكون بذلك قد تخلى عن مسؤوليته في انتقال سلمي للسلطة يضمن استقرار البلاد ومستقبلها، معرباً عن تخوفه من أن يسيطر عليها الأخوان المسلمون إذا ما غادر موقعه فوراً. ü بالرغم من إعلانه في مؤتمره الصحافي بالتحقيق مع المتسببين والمشاركين في «غارة الأربعاء» الهمجية التي وصفها ب«الكارثة» والمأساة، وبتوجيهه وزير الداخلية بعدم التعرض للمتظاهرين في «جمعة الرحيل»، إلا أنه كان لافتاً اعتقال الأجهزة الأمنية سبعة من قادة شباب الانتفاضة، حتى بعد بدء التفاوض مع نائب الرئيس عمر سليمان، مما عزَّز الشكوك في أوساط المنتفضين بمصداقية الرغبة في الحوار من جانب النظام. ü الأخبار الأولية، وفي ظل تقاطر المتظاهرين على ميداني التحرير وعبد المنعم رياض - حيث يتجمع مؤيدو النظام- يتوقع أن تتحول إلى تظاهرة مليونية، لأن التقديرات المبدئية أثناء كتابة هذه «الإضاءة» قد تجاوزت الثلاثمائة ألف متظاهر، بينما أقام الجيش حاجزاً يفصل بين المنتفضين ومؤيدي الرئيس المتحفزين للصدام. ü مجلس الشيوخ الأمريكي أصدر قراراً مساء الخميس يطلب من الرئيس المصري التنحي وتسليم مهامه ونقل سلطاته لنائبه عمر سليمان، لإدارة الفترة الانتقالية حتى سبتمبر المقبل، من أجل انتقال سلمي إلى نظام ديمقراطي، وذلك بإعمال المادة «39» من الدستور المصري التي تقول بإمكانية تفويض صلاحية الرئيس لنائبه.. وهو قرار يعني أن الإدارة الأمريكية وجهازها التشريعي قد رفعا الغطاء والحماية عن الرئيس مبارك بالكامل، ليفقد بالتالي أهم حليف دولي له هو الولاياتالمتحدة. ü أما التصريح الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية ومقرها «البنتاغون»، يحمل إشارات ومضامين تدعو للقلق، حيث قال البنتاغون أمس «إن مفتاح الحل هو بيد الجيش المصري»، وإذا ما قريء هذا التصريح في ضوء الاتصالات التي أجراها رئيس أركان القوات الأمريكي «مايكل ملبون» مع كل من رئيس أركان الجيش المصري والإسرائيلي الأسبوع الماضي، فإن هذا قد يقود إلى الاعتقاد بأن العلاقات الإستراتيجية العسكرية بين الجيوش الثلاثة، في ضوء اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، تعلو على كل ما هو سياسي، وقد يكون هذا «المفتاح» الذي يتحدث عنه هو احتمال «الانقلاب العسكري» إذا ما دعت الضرورة، ربما لترتيب الأوضاع وفقاً لرؤية واشنطن وليس بالضرورة لرؤية المنتفضين أو النظام، أيضاً مع إشارات أخرى صادرة من الكونغرس ومن البنتاغون نفسه بإمكانية مراجعة المعونات العسكرية للقوات المسلحة المصرية، وهي إشارات لا تخلو من «ضغط» من الصعب تحديد أهدافه النهائية المحددة. السؤال يظل هو على ماذا ستصبح مصر اليوم بعد «جمعة الرحيل»، هل سيرحل مبارك وحده ويبقى النظام، هل سيواصل مبارك التمسك بموقفه في الاستمرار حتى انتهاء ولايته في سبتمبر المقبل، وماذا سيحدث في هذه الحالة، أم سيستجيب للدعوات المتصاعدة من الداخل والخارج برحيله، وهل- حتى لو تمت الاستجابة من جانب مبارك للرحيل- من ضمانة بأن المنتفضين والمعارضين سيكتفون بذلك، أم سيرفعون سقف مطالبهم ليشمل الرحيل الكامل للنظام ورجاله، أم ستستمر الأزمة برمتها تراوح محلها لأيام وربما أسابيع قادمة، الله وحده يعلم مآلات هذا الوضع المفتوح على كل الاحتمالات.