بالأمس وفي آخر اليوم خرج الرئيس المصري حسني مبارك- متأخراً كالعادة- «الثانية عشر بتوقيت السودان» بخطاب جديد هو الثاني منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في مصر في الخامس والعشرين من يناير الماضي، الخطاب يعد المصريين بعدم الترشح للرئاسة مرة أخرى وتعديل المادتين المتعلقتين بفترة الرئاسة وتحديدها لدورتين فقط، هما المادتان «76» و «77» من الدستور الحالي، وأبان مبارك أنه لم يكن ينتوي الترشح أصلاً لفترة رئاسية جديدة، وأنه سيكرس الشهور المتبقية من فترة دورته الرئاسية الحالية حتى حلول موعد الانتخابات في نوفمبر المقبل للإشراف على الحوار مع القوى السياسية الأخرى، حرصاً منه- كما قال- أن يختم عمله بطريقة تؤمن لمصر مستقبل أفضل وليسلم الراية لمن يخلفه، معلناً أنه لم يكن طالب سلطة أو جاه، وأنه رجل من القوات المسلحة ليس من طبعه خيانة الأمانة أو التخلي عن المسؤولية، وأن مسؤوليته الآن هي إدارة الأوضاع حتى يختار الشعب من يحكمه. خطاب الرئيس يأتي في أعقاب يوم من التظاهرات المليونية التي عمّت جميع أنحاء مصر تحت شعار رئيس واحد ظل يتكرر منذ انطلاق الانتفاضة وهو «الشعب يريد إسقاط النظام ورحيل مبارك»،لكن برغم وجاهة العرض الذي قدمه الرئيس مبارك في هذا الخطاب الثاني، من حيث أنه يعد الشعب بإنهاء دوره السياسي في نحو ثمانية أشهر، ومن حيث الاستجابة لتعديل المواد المختلف عليها والمتصلة بشروط الترشيح التي كانت تحصره عملياً في أعضاء الحزب الوطني الحاكم وتضع أرقاماً لتأييد الترشيح يعجز أي مواطن آخر من خارج منظومة الحزب في الحصول عليها ولا تضع سقفاً محدداً لمدة الرئاسة، إلا أن هذا العرض لم يجد استجابة كاملة، واعتبر من قبل المحتجين الشباب ومن كثير من الفعاليات السياسية الناشطة بمثابة «تسويف» أو «مناورة» لشراء الوقت وإطفاء جذوة الانتفاضة، تمهيداً للالتفاف على المطالب الرئيسية المتمثلة في التغيير بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية. المتظاهرون رأوا في تخيير الرئيس للشعب بين الفوضى والاستقرار محاولة لإخافة الشعب من مآلات التغيير إذا ما جرى وفقاً للمطروح في الشارع من إسقاط فوري لسلطته، بل على العكس رأوا أن بقاءه هو الذي يعني استمرار أعمال الاحتجاج، وقد يقود للصدام وإسالة الدماء كما ذكر الدكتور محمد البرادعي. الدكتور أيمن نور رئيس حزب الغد والمرشح الرئاسي المعارض في انتخابات «2005» قال إن رجل الشارع يطالب الرئيس مبارك بالرحيل بعد «30» سنة من الحكم، وإذا ما قال مبارك إنه لم يكن ينوي الترشيح، فكلنا نعلم أنه لم يكن ينوي أن يفعل ذلك، لأنه -واقعياً- لم يكن ليبدأ فترة رئاسية جديدة تنتهي به فوق سن التسعين، ما يجعل مثل هذا العرض تحصيل حاصل، وقال إن حزبه وقوى المعارضة الأخرى ستجتمع غداً «اليوم الأربعاء» لدراسة ما جاء في الخطاب والرد عليه، بينما وصف طارق خليل، ممثل تحالف المصريين الأمريكيين الخطاب بأنه «سيء جداً» وقال إن عمر سليمان لديه القدرة والأهلية لتنفيذ عملية الحوار والانتقال، وتساءل عن سر إصراره على الاستمرار في السلطة، ووصف هذا الإصرار بأنه ينم عن «سود نيِّة». أما د. جمال زهران النائب السابق وأستاذ العلوم السياسية والشخصية الوطنية المستقلة فقد قال إن مبارك فقد سلطته منذ انطلاق الثورة في 25 يناير، وإن المعارضة تقول إنه لا مفاوضات قبل رحيله وحل البرلمان وإلغاء قانون الطورائ، وإنه لو كان «حسن النيّة» لأقدم على فعل ذلك، ولكن إصراره على البقاء يعني أنه يريد أن يأتي ببطانته حتى يعوِّق إجراء إصلاحات سياسية حقيقية. من جانب آخر دعا عمرو موسى - بلغة دبلوماسية تفرضها ضرورات منصبه كأمين عام للجامعة العربية ووزير خارجية سابق لمصر- دعا للحوار من أجل التغيير الذي بات حقيقة ولرسم صورة المستقبل، ولم يستبعد فكرة ترشحه لمنصب الرئاسة في الانتخابات القادمة. في الأثناء وبعد إلقاء مبارك لخطابه خرجت مظاهرات صغيرة- قدّرها البعض بالعشرات بينما قدّرها آخرون بالمئات- تأييداً لخطاب مبارك وبقائه في السلطة إلى حين انتهاء دورته الرئاسية، ورأى الكثيرون أنها مظاهرات مصنوعة، و حاول هؤلاء التوجه صباحاً إلى ميدان التحرير حيث يتجمع آلاف المتظاهرين، لكن القوات المسلحة ردتهم من شارع الكورنيش خشية أن يتسبب وصولهم إلى الميدان في الصدام مع المحتجين. اللافت حقاً أن خطاب مبارك القائل بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة يأتي في نهاية نفس اليوم الذي طلبت فيه الولاياتالمتحدة، من خلال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ جون كيري، من الرئيس المصري إعلان عدم ترشحه أو ترشيح ابنه جمال لولاية جديدة، فعل ذلك كيري من خلال مقال نشره في جريدة نيويورك تايمز ومن خلال بيان أصدره من مكتبه في الكونغرس، ماترك انطباعاً لدى المراقبين بأن خطاب مبارك جاء استجابة لتوجيهات أمريكية مباشرة، خصوصاً بالنظر إلى حقيقة وصول موفد للرئيس أوباما في نفس اليوم والتقائه الرئيس مبارك، كما أن الخطاب يوحي أيضاً بالاستجابة للموقف الأمريكي الداعي «لانتقال منظم للسلطة» في مصر على حد تعبير الرئيس أوباما منذ بداية الانتفاضة. في كل الأحوال، وبرغم الكم المهول من المعلومات والتصريحات المتدفقة حول الأحداث التي تشهدها مصر، يبقى أن العنصر الأساسي في كل هذا الذي يجري هو غياب الثقة المتطاول بين النظام المصري وبين الجماهير المنتفضة التي باتت تشكل المعارضة الحقيقية للنظام، خصوصاً بعد أن انضم إليها كبار السن من الرجال والنساء ولم تستثنِ حتى المعوقين والأطفال، فأضحت ثورة جماهيرية كاملة الدسم، وما علينا إلا أن ننتظر الساعات وربما الأيام القليلة القادمة حتى ينجلي الموقف.