قلنا في مقالنا السابق إن الهوية العربية الثقافية أصبحت هوية البلاد بحكم أن كل السكان أو الغالبية العظمى منهم يتحدثون العربية أو هي اللغة المشتركة بينهم، وكذلك اعتناق معظم السكان للدين الإسلامي وللعلاقة الثقافية القوية والحياتية والمتلازمة بين اللغة العربية وما تعنيه من زخم حياتي وثقافي من ناحية، وبين الدين الإسلامي وما يمثله من هيمنة على كل مناحي الحياة.. وكذلك للعلاقة الوثيقة بين الثقافة العربية والدين الإسلامي، وقد رأينا في مقالنا السابق كيف أنهما أصبحا نسيجاً يكمل بعضه ولا يمكن الفصل بين مكوناته.. وعلى سبيل المثال السيرة النبوية هي المقدمة التاريخية والجغرافية والسياسية لفهم الإسلام، ولكن السيرة النبوية جزء من تاريخ الجزيرة العربية، وهذا الجزء لا يهم العرب وحدهم، بل كل المسلمين في العالم.. وهؤلاء المسلمون لا يمكن أن يكون موقفهم من ذلك التاريخ مثل موقفهم من أي تاريخ آخر أي للاطلاع الأكاديمي، بل لهم موقف مؤيد ومناصر لطرف معين، وبالتالي يصبح التاريخ هو تاريخهم بحكم انتمائهم للعقيدة الإسلامية التي جاءتهم على أوعية الثقافة العربية، وهذا الرباط العقائدي الثقافي أقوى من أي رباط ترتكز عليه الهوية الأفريقية، أي مرتكزي العرق والدين، إذ ليس ثمة لغة أفريقية واحدة مشتركة بين السكان وكذلك الدين، هذا الفرق الثقافي هو الذي رجح كفة الهوية العربية الثقافية والتي سنتناول أهم خصائصها في هذا المقال، ولكن في البدء نود أن ننوه أن الثقافة العربية شكلت هوية البلاد قبل مجيء الحكومات العربية الإسلامية وبالتالي أي حديث عن تهميش أو محاربة أو إقصاء للثقافات الأخرى لصالح الثقافة العربية، هو حديث غير صحيح وغير موضوعي، فالثقافة العربية فرضت نفسها بنفسها لما قدمته وتقدمه من إجابات حياتية ملحة ولتفاعلها مع الثقافات الأخرى أخذاً وعطاء وللدور الكبير الذي لعبته في مجالي الدين والتجارة. أهم خصائص الهوية العربية أنها هوية ثقافية كما كل الهويات الأخرى، ولكن ما يميزها لبوسها ثوب المكان والبيئة التي تدل عليها من خلال تفاعلها مع تلك البيئة، فهي لا تلغي الآخر وتحل محله كلية، ولكنها تتلاقح معه موجدة هجيناً لا تذوب فيه وتستصحب الآخر ضمنه، وهكذا تتعدد الهويات العربية من سودانية إلى مغربية إلى شامية إلى مصرية، فهذه الشعوب الموحد بينها الثقافة العربية أكثر من العرق، وهذا مصداقاً لحديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) (ليست العربية بأبٍ لأحدكم ولكن كل من تحدث العربية فهو عربي)، أو ما أطلق عليه العلماء صفة الاستعراب، فهذا هو الذي يقنن عروبة السودان بطريقة لا تقبل الجدل، فهي قائمة على الحقائق الموضوعية الثقافية المشار إليها وليس بسبب قبول أو رفض الآخرين لتلك العروبة داخل البلاد أو خارجها. الخاصية الثانية والتي عامل جذب ترحاب بالثقافة العربية، وبالتالي الهوية العربية السودانية هي ارتباط مرتكزيها أي اللغة والدين الإسلامي.. برباط وثيق حتى يكادان يشكلان مرتكزاً واحداً، وذلك لتداخلها.. وقد رأينا في المقال السابق أن الدين على مستوى الكتاب والسنة جاء باللغة العربية واعترف ببعض مكونات الحياة العربية القديمة، وكذلك اللغة العربية هي أداة التفكير الذي أنتج السلوك العام في كل أشكاله المتعلقة بالعادات والتقاليد والأعراف، وهي الأمور التي عالجها الإسلام في ما بعد.. وهذا الرباط الوثيق هو السر في القبول والترحاب الذي قوبلت به الثقافة العربية في كل أنحاء العالم الإسلامي وليس السودان فحسب، ولتجذر الدين في تلك الثقافة.. وكل ذلك قد شكل خط دفاع عن تلك الثقافة بواسطة المسلمين من غير العرب، وهو الذي يقف في وجه العداء الذي تقابل به الثقافات العربية والهوية العربية حيناً باسم العنصرية، وآخر باسم الجهوية. الخاصية الثالثة هي عالمية انتماء تلك الهوية، فهي وإن تشكلت محلياً بالسودان إلا أن مرتكزيها أي اللغة العربية والدين الإسلامي، ذوا أصول عالمية، فاللغة العربية هي الخامسة على مستوى العالم باعتماد هيئة الأممالمتحدة قياساً على عدد المتكلمين بها، أما الدين الإسلامي فهو الثاني على مستوى العالم، وذلك قياساً على عدد المسلمين مقارنة بالأديان الأخرى، بالطبع هذه الخاصية العالمية تعطي تلك الثقافة محيطاً جغرافياً وسكانياً للتعامل معه أخذاً وعطاءً، لذلك فهي ثقافة غير معزولة وغير جامدة وبالطبع ينعكس كل ذلك على الهوية، بطبيعة الحال أيضاً هناك البعد التاريخي العالمي متمثلاً في الفتوحات العربية الإسلامية التي كانت نتاج الدور التاريخي الذي قام به العرب المسلمون الأوائل من ثورة دينية وثقافية وسياسية لعبت أخطر الأدوار في تشكيل العالم في الماضي والحاضر والمستقبل. الهوية العربية السودانية هوية محلية أيضاً، بمعنى أنها نتاج بيئتها في السودان، فقد استصحبت الآخر دون أن تتخلى عن ذاتيتها، فهي ثقافة عربية ذات ملامح أفريقية ناتجة عن التعامل والتفاعل مع الثقافات الأخرى وبطريقة سلمية حرة لا إقصاء فيها أو اضطهاد، وهناك أمثلة عديدة أهمها دخول بعض المصطلحات المحلية في قاموس المحلية السودانية مثل كلمة(دوكة) من شمال السودان، وتعني المطبخ.. وكلمة(توج) من أعلى النيل، وتعني المستنقع.. وكلمة(دبنقا) وتعني الجرة المستخدمة لتخزين الغلال وهي من غرب دارفور، وكذلك ببعض أساليب الحياة المحلية مثل بناء المنازل من القش (القطية) بدلاً عن بيت الشعر العربي، وجبة العصيدة بدلاً عن العطالة العربية التي تصنع من العجين وتدفن في الرماد الساخن، وسوط العنج وغيرها من الأشياء الأخرى، أما في مجال العادات والتقاليد فهناك عادة الشلوخ أفريقية وبعض العادات المتعلقة بالزواج والمأتم الأفريقية أيضاً، وهذا قليل من كثير ولكن فيه أكبر دليل على أن الثقافة العربية في السودان كما في كل أنحاء العالم الأخرى تلاقت مع الثقافات المحلية ولم تضطهدها أو تقصيها، وهذا هو الذي شكل لها عامل استمرارية حتى اليوم. عقيد ركن معاش