ü كانت لحظات تاريخية حاسمة تلك التي وقفها الشباب المصري ومن خلفه الشعب المصري في كل المُدن والقُرى والنجوع تحت شعار واحد «الشعب يريد إسقاط النّظام».. أو تغيير النظام «وتجلَّد» مُبارك بجلد قرنتية هاشم صديق واستمسك بكرسي السلطة بطريقة مخزية لا تشبه «شيخ» تجاوز الثمانين من عمره بثلاث سنوات وجلس على كرسي الفراعنة الذي دفع في سبيل البقاء عليه كل ما يخطر وما لا يخطر على بال فباع العراق وقضية فلسطين وأدخل بلادنا في جحر ضب عندما أصرّ «وفق الإملاءات الخارجية» التي قال عنها «إنّها الحرج كل الحرج والعيب كل العيب» لكنّه لم يستشعر الحرج أبداً عندما دخل العراق الكويت غازياً وكان موقف السودان واضحاً.. وهو إدانة احتلال الكويت.. ورفض التدخل الأجنبي لإخراج العراق.. لكن مبارك الذي وضع على أذنيه وقراً فوق السماعات الطبية التي يضعها داخل «أذنيه».. وأصر على صياغة قرار واحد «يُدين احتلال الكويت من قبل العراق.. ويطلب تدخل القوات الأجنبية في المنطقة» وكان موقفنا هو الرفض فأدخلنا تحت مسمى دول «الضد» فأجهض آمال التنمية المستدامة التي كنّا نعول على الصناديق العربية ودول الخليج سيما الكويت فقلب حساباتنا رأساً على عقب.. ولم يتورع عن زج اسم السودان ضمن قائمة الدول الداعمة والراعية للإرهاب.. وشجّع التمرد في الجنوب وفتح مخازن التشوين والدعم اللوجستي للحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها ومكاتبها.. واحتضن التجمع الوطني المعارض.. واحتل حلايب وشلاتين.. ووقف حجر عثرة أمامنا دبلوماسياً وإعلامياً وأمنياً.. وما كان تقاربنا إلا من قبيل «التُقية» فكنا نَهشُّ في وجوه نظام مبارك وقلوبنا تلعنهم.. وعندما جرت محاولة اغتياله في أديس أبابا على يد شباب مصريين لم يتردد لحظة في اتهام السودان دون روية أو تثبت وهو داخل طائرته عائداً إلى القاهرة.. وفكّر جدياً في غزو السودان انتقاماً لنفسه لكنه تراجع تحت «ضغط خارجي» حتى لا تتشابه مع حالة غزو العراق للكويت فنسبنا ذلك لحكمة مبارك تُقيةً وها هو وقد ترك «كم» جنات وعيون ونعمة كان فيها من الفاكهين كذلك وأورثها الله لقوم آخرين.. ونزع الله مالك الملك.. الملك من مبارك وخرج من أرض الكنانة خائفاً يترقب.. بعدما ترك خلفه كلمة مسجلة لتوهم خصومه بأنه لا يزال يقبض على زمام الأمور كما قال رئيس وزرائه أحمد شفيق ووزير إعلامه أنس الفقي الذي لا يفقه شيئاً بعدما أصمّ أُذنيه من سماع صوت الشعب وظنَّ أنه سيأوي إلى جبل فرعون ليعصمه من طوفان الشعب المصري الأبي العزيز. ü وحُق لنا أن نفخر في السودان بأن تجاربنا في الثورات الشعبية أقدم من كل الشعوب العربية في أكتوبر 1964م وفي إبريل 1985م.. ولكن من العدل أن نذكّر بأنّ حُكامنا العسكريين لم يمارسوا أي صلف أو بطش أو غرور فما أن تناهت إلى سمع المرحوم إبراهيم عبود أصوات المتظاهرين حتى سارع بحل المجلس العسكري العالي فوراً وسلَّم إدارة شؤون البلاد إلى هيئة الأحزاب فنجحت ثورة أكتوبر وفي حصيلتها الشهيد أحمد القرشي طه الذي قتلته رصاصة طائشة «دون قصد» والشهيد بابكر عبدالحفيظ وبعض الجرحى بإصابات متفاوتة.. صحيح إن الثورة شعبية لكن الصحيح أيضاً أن الحاكم العسكري والجيش لم يمارسا أي عنف ضد الشعب الثائر.. وفي ثورة إبريل من الإنصاف أن نقول بأن اللواء د. عمر محمد الطيب رفض عرضاً أمريكياً باستلام السلطة وجاء المجلس العسكري الانتقالي برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الدهب لمدة عام واحد لم يتجاوزه بيوم واحد.. وكل الانقلابات العسكرية في السودان «الناجحة» كانت بيضاء بلا نقطة دم واحدة.. عند استلام السلطة وعند التنحي عنها «باستثناء محاولات الاستيلاء على السلطة بين العسكر والعسكر» لكنّ الثورة المصرية الشبابية التي قابلها الرئيس مبارك بالعناد الذي يشابه «عناد الأطفال في التمسك بدمية هي ملك لغيره» هي علامة فارقة. ü إن سكرة السلطة تعمي الأبصار وتصُم الآذان «وتتخن الجلد» لدرجة غريبة.. حتى أن بعض المحللين السياسيين عندما استمعوا لخطاب مبارك الثالث قالوا هذا الخطاب يحتاج لمحلل نفسي لا محلل سياسي فالرجل القابض على زمام السلطة والثروة لثلاثة عقود تسرّب أعوانه بين أصابعه فلم يستطع أن يمسك بشيء «إلا كما يمسك الماء الغرابيل» ومع ذلك يصر ويكابر ويقول سوف وس.. وهو يعلم أنه أصبح رئيساً بلا شعب.. وأن الشعب لن يعود إلى دياره ويمارس عمله كالمعتاد.. إلا أذا عاد اللبن إلى الضرع.. أو أن تعود الكلمة إلى اللسان. إنّ ثورة 25 يناير المصرية قد وضعت حداً لحكم عسكري وشبه عسكري وشمولي امتد منذ 23 يوليو 1952م بعدما أصابه البلي وشاخ فللحكم دورات تبدأ شابة فتية وتهرم وتشيخ وتموت أو تفوت «وقل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير». وداعاً لمصر السياسية القديمة فقد دالت دولتها وزالت سطوتها.. ومرحباً بمصر الحديثة دولة تقوم على الحق والعدل والقانون وتهنئة حارة لشباب مصر الفتية الأبية الحُرة الشامخة.. وتذكرة لديناصورات السياسة عندهم وعندنا حكومة ومعارضة.. بأنّ الحاضر لا المستقبل وحده للشباب المدرك لقضيته المنحاز لأمّته.. الحافظ لنفسه ودينه.. فاعتبروا يا أولي الأبصار. وهذا هو المفروض