بكت بلا صوت ، و هى تتأمل خيطاً رفيعاً يسلك طريقه إلى رقعة مظلمة و من ثم يبدأ متلاشياً رويداً رويداً، مصحوباً بموسيقي باكية تعزفها دواخلها و متعة البكاء التى سكنت قلبها لسنوات .. الموسيقى الباكية تجارى الخيط الرفيع فيتلاشيان معاً ... فى لحظة واحدة .. فتنفجر عند تلك اللحظة باكية بصوت مسموع ، دون أن يسمعها أحد ، حتى أُذنيها لايسمعان بكاءها .. أُذناها تبكيان معها .. كل جسدها وكل روحها يبكون معها ، فلا أحد يسمع أحد ... صوت البكاء يبدأ تدريجياً فى الانخفاض ليعود الى الداخل ... تبتلع بكاءها رويداً رويداً ، وكأنها تحتفظ به فى دواخلها ، لعلها تستدعيه مرات و مرات ... نهضت تتأمل صورتها على مرآة جدارية داخل غرفتها .. تتحسس بلطف دمعات لم تجف بعد على خديها .. تبتسم فى سعادة ونشوة .. تُطوّف بنظراتها ساعة كاملة على وجهها .. ترقب عينيها وهن مستسلمات لنظرات تصدر عنهن ، وكأنها نظرات غريبة ... عيونها تتأمل عيونها .. النظرات المتأملة تحاور العيون المستسلمة وسط أجواء من الرضاء و الإحتفال و المزاج ، و تقرأ بصوت مسموع كتاب العيون ، تقلبه صفحة صفحة وكأنها تقرأ فنجاناً .. تستنطق أسرارها وتستكشف أغوارها فتحصل على تفاصيل كثيرة تجتهد فى لملمتها فى إجابة واحدة لألف سؤال أثقل كاهل الفتاة الباكية ... الراضية .. المستمتعة بمتعة البكاء .. تغادر المرآة و قد إكتسبت طاقة ومزاج ... تخرج الى الحياة و قد شفيت من أثقالها التى غسلها ماء الدموع و هواء الدواخل و هو يصعد ويهبط، و النظرات المتأملة التى قرأت سطور العيون فتنبأت بمستقبل مشرق. جلست إليها أسألها عن سر هذا الفرح الذى يبدو عليها كلما إلتقيتها ، فحدثتنى عن أحوالها مع الحياة ، و كأنى أعبر غابة من الأحزان يبدو فى ظاهرها فرح خرافى ... أحزان قاسية حرمتها من كل جميل وسعيد ، و من أملٍ وحب و من كل نجاح و درب ... أحزان رسمت فجيعتها الأيام والليالى والناس من ذوى القربى والغرباء ... أحزان تداوى أحزان ... ولكنها ظلت ولأعوام تداوى أحزانها ببكاء خاص لايبكيه كل الناس ... بكاءُ إكتشفت أسراره من داخل سجن الأحزان ... من داخل غرفتها ... بُكاء تتخيله .. تستدعيه بطريقتها الخاصة ، تحشد له كل طاقة أودعها الخالق فيها .. تستدعى قواها الخارقة .. يتبدل المحيط من حولها وتتبدل هى من الداخل .. تتكاثف المشاعر والأحاسيس ويهبط منها جسدها الى أسفل وتصعد روحها الى أعلى ، ومن هذه النافذة ترى غير ما يرى الأخرون ، لا تحتاج أن تتخيل ، فهى فى دنيا الخيال ، فيظهر لها ذلك الخيط الرفيع يسلك طريقه الى رقعة مظلمة ... وهكذا تتصاعد الأحداث ... عوالم من الحزن .. فيتصاعد البكاء ... فترهف الأذن الى موسيقى تعزفها هى دون أن تسمعها ، وكأنها أُذن تعزف ولا تسمع ... هى وظيفتها فى عالم الفتاة الباكية ... كل شئ يتبدل ليلعب دوره الجديد .. عالم آخر يداوى أحزان عالمنا فنعود إليه بفرح خرافى يطوى أحزاننا ... وكل ذلك عبر بكاء خاص يفضى بنا الى حالة من الفرح ... فرح حقيقي .. البكاءُ سادتى القراء عالم جميل، أعمق بكثير من عالم الضحك .. من منا يكتشف أسراره وقدراته ومتعته...