في أمة العرب شباب صدمته الصورة المأساوية للنفس والمجتمع وللسياسة والحياة بعامتها، كان الشباب قد وضع نفسه بين تلك الصور وبين الصور المتخيلة للمستقبل، فلا تختزن مرحلة الفتوة أحلام المراهقة بل تطلقها نضالاً. إذا استندنا إلى معطيات الساحة العربية، نكتشف أن الشباب كان يمتحن أحلامه وإحساساته بمعنى أنه كان يبحث عن لفظة الإحساس، وعن استمرارية ذات الإحساس أكثر من أي شيء آخر سوى أن سمينا هذا الشيء بالديمقراطية أو العقلانية أو غيره.. حين تكون الحياة جدرانا داخل جدران وسرداباً داخل سرداب، وفكراً منقطعاً وصوتاً، مشروخاً وقلباً مذلولاً لما يفوق الثلاثين عاماً حين يتحقق كل ذلك.. بموت كل شيء. إن الثورة هي الانقضاض على حالة الركون المستمر وهي الكسر لموال التكلس الذي أصاب الحياة العربية طوال العقود الأربعة الماضية، إن طريق الشعب إلى مملكة الحرية هو طريق الرؤى التي تتعالى فوق ظواهر الخديعة والجريمة، وبدون هذا الطريق لا يكون المناضل غير مهرج أو غوغائي أو إرهابي، لأن الحرية ليست خيالاً أو طيراناً في الأحلام، إنما هو كفاح شاق داخل المجتمع ومع النفس كما أن صدق الهوية هو السقف. استمر الانتهاك الواسع للحق في الحياة الذي يمثل أخطر الظواهر على الساحة العربية وتوطن في المنطقة بعض مصادره الرئيسية مثل الإرهاب الذي أضحى أحد ملامح المشهد الكئيب على الحياة العربية بتداعياته المؤسفة، وتعقيدات مكافحته التي تكرست بدورها كمصدر من مصادر انتهاك الحق في الحياة، وجرى توظيفها محلياً في شل التطور السياسي وقمع المعارضين، ودولياً في تكريس الاحتلال بالخلط بين المقاومة والإرهاب، كما توطن، مصدر آخر في الحياة التقليدية متمثلاً في النزاعات الداخلية وتجاوزات الباع الطائفي والصراعات القبلية- والانقسامات السياسية، وقد شهدت العقود الأخيرة الكثير من هذه المظاهر بتفاوتٍ في درجة حدتها من موقع إلى آخر ومن وقت إلى آخر.ظل الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق يمثلان أعمق أبعاد الظاهرة أولاً في ذاتها بما يمثلان من عدوان ومن نمط إرهاب الدولة، وثانياً في تداعيات احتلالهما في إثارة الفتن والانقسامات، وجنباً إلى جنبا مع هذه المصادر استمر انتهاك الحق في الحياة في سياق إجراءات قمع المظاهرات والتعذيب في المعتقلات ومراكزالاحتجاز، ونشير هنا الى الحالات التي وقعت في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا.. حيث فقد العشرات حياتهم خلال قمع المظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كذلك استمر انتهاك الحق في الحرية والأمان الشخصي أبرز ملامح مشهد حقوق الإنسان في الوطن العربي، وتتجذر هذه الظاهرة تحت وطأة عدة عوامل رئيسية تأتي في صدارتها قوانين الطوارئ وغيرها من القوانين المشابهة، وقوانين مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال ونقص الرقابة بمختلف أشكالها على أداء السلطات التنفيذية، وثقافة الإفلات من العقاب، فهذه القوانين تسلب الحماية التي تكفلها الدساتير للحق في الحرية والأمان الشخصي، وتسبق فراسة على الممارسات الأمنية على حساب الحقوق الأساسية، وتكرس تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية والتشريعية، وتضعف دور وسائل الرقابة الشعبية على أداء موظفي انقاذ القانون (مثلاً).أمتد انتهاك الحق في الحرية والأمان الشخصي إلى المعارضين والنشطاء السياسيين أو المنافسين المحتملين والإعلاميين والصحفيين بدرجات مختلفة من الحدة من بلد لآخر في كل البلدان العربية، استمرت الضغوط على مختلف الوسائل الإعلامية من خلال القيود التشريعية والممارسات القمعية، ودخلت الولاياتالمتحدةالأمريكية التي هيمنت على (الوطن من المحيط إلى الخليج) دخلت كشريك مباشر في عرقلة كل الحريات بالتواطؤ مع كل مؤسسات الحكم هناك وموافقتها.استمرت الأنظمة العربية (الساقطة والآيلة إلى السقوط) في انتهاج سياسات اجتماعية منحازة إلى رجال الأعمال دون العمال، وإلى الأثرياء دون الفقراء، والتخلي التدريجي عن مجانية التعليم والخدمات الصحية، وانعكس ذلك على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي شهدت تراجعاً مزدوجاً تحت وطأة الانفتاح الاقتصادي المنفلت وخلل السياسات الاجتماعية، وتفاوت أثر تداعيات الأزمة المالية في الاقتصادات الوطنية في البلدان العربية تفاوتاً كبيراً حسب خصائص هذه الاقتصادات ودرجة اندماجها في السوق العالمية، ومدى اعتمادها على النفط كمصدر حاسم ومهم، ورقم صعب في موازنات الدولة، كما كشفت الأزمة المالية في كل الأحوال عن اختلالات عميقة في الاستراتيجيات الاقتصادية العربية يتعين معالجتها، خاصة وقد بدأ موال التبديل يطال الساحل والصحراء!. بخلاف التوجه الذي شهدته بعض الدول التي تمثل قلاعاً للرأسمالية والليبرالية الجديدة ولم تجد حرجاً في تدخل الدولة لضبط الأسواق، وفرض برامج الاصلاح على غرار ما فعلت الولاياتالمتحدة، لم تتخذ الحكومات العربية (السابقة واللاحقة) أي إجراءات جدية لمراجعة استراتيجيتها الاقتصادية، التي قادت إلى تأثرها بالأزمة المالية العالمية تأثراً شديداً، ولم تظهر أي نوايا نحو معالجة الاختلالات في اقتصاداتها أو فتح مسارات بديلة لتفادي أي صدمات محتملة، بل على العكس من ذلك فقد اتجه بعضها إلى تعزيز الاستراتيجيات السابقة على نحو ما فعلت الحكومة المصرية (السابقة) بادخال (رجال الأعمال) في البنية الأساسية للاقتصاد الوطني على الرغم من ترسيخ الطبيعة الاحتكارية لذات القطاع.على الرغم من الجهود التي بذلتها بعض الدول العربية لاحتواء آثار الأزمة المالية في المجتمع العربي من خلال برامج الدعم المالي أو السلعي أو إجراء بعض الزيادات في الأجور والمعاشات، فقد ظلت معظم السياسات الاجتماعية تتعامل مع أعراض الأزمة وليس مع مضمونها.في مجال محاربة الفساد وعلى الرغم من تدني مواقع الكثير من البلدان العربية على مؤشر منظمة الشفافية العالمية، فقد ظل الاتجاه العام في الدول العربية، يتجه نحو تضييق منافذ وقنوات محاربة الفساد بدلاً من إتاحة الشفافية، حيث ظلت تشريعات اتاحة المعلومات مجرد (إرهاصات) حيثما طرحت.. وقد أشارت بعض الدراسات الأخيرة لما سمي أخيراً ب (نظم النزاهة الوطنية) إلى أن معظم الأقطار العربية يتسم نظمها بضعف عام وتنطوي على فجوات (هائلة) في الأحكام القانونية الخاصة بمكافحة الفساد أو كما تفضل الأستاذ محسن عوض، أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان بقوله (إن هذه النظم تعكس غياب الالتزام بالممارسة الفعالة لمكافحة الفساد، وأنه من الصعب التحدث عن نظام وطني للنزاهة في كل الدول العربية).على كل الأحوال أن نماذج التحولات الكثيرة نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان صارت متعددة ولكنها لم تكن صدفة، وإنما كانت تعبيتراً عن إرادة سياسية وعزم أكيد هو ما تحتاج إليه يقيناً كي نرى الضوء في نهاية النفق.