من الاقوال الشائعة عربيا أن كثرة الطلة بتمسخ خلق الله وفى رواية أخرى كثرة الطلة بتحبب خلق الله ، و بعد متابعة الأحداث العنيفة التي انتهت بإزاحة أركان الحكم في كل من مصر وتونس والحبل على الجرار كما قال صاحب الاتجاه المعاكس فيصل القاسم في قناة الجزيرة ، فان من الثابت ألان أن الناس مع التغير ولا تطيق التحجر والتشبث بكراسى الحكم ، ويمكن أن تصبح كثرة الطلة محببة فقط إذا كانت من النوع البريطاني خفيف الظل فالناس هناك يحبون ملكتهم التي احتفلت بتاريخ 7 فبراير 2011 بالعيد التاسع والخمسين لجلوسها على العرش . والسؤال لماذا وكيف احتملها الناس هناك كل هذه الفترة الطويلة التي فاقت نصف القرن ؟ والتي تجاوزت بعقود الفترة التي قضاها بعض الحكام العرب وغير العرب الذين حصدوا غضب شعوبهم. الجواب بسيط لان ملوك بريطانيا منذ نهاية القرن السابع عشر بعد أن تغلبت عليهم سلطة البرلمان اصبحوا مجرد رموز ( لا بتهش ولا بتنش ) ولا يطلون علي الناس كثيرا ، وفى التاريخ فان ملوك بريطانيا لم يخسف بسلطتهم غير تسلطهم على الناس وادعائهم الحكمة والراى الواحد الذي لا يجب أن يخالف. ثورة الشباب التي انتظمت بعض الدول العربية لم تكن بسبب الفقر والعطالة وتدنى مستوى الدخل فقط ، لأنها حدثت في دول حققت مستوى طيباً من العمران والتعليم والتنمية مثل تونس ومصر وليبيا ، لابد من الاعتراف بأن هناك ازمة حرية فى العالم العربى ، فالحرية تولد مع الإنسان بمجرد أن يتنفس الهواء ، ويظل يبحث عنها طوال حياته إذا ما تم اغتصابها أو السطو عليها، وهو يستعيدها مهما أبدعت الأنظمة وابتدعت الحكومات من الحيل أو قدمت من الإغراءات وهذا هو الدرس الذي سبق للسودان أن قدمه للعالم فى 1964 بالرغم من انجازات عبود وفى 1985 بالرغم من انجازات مايو ، وتقدمه لنا الان الوقائع التي جرت مؤخرا في بعض دول العالم العربي بالرغم من ما حققته ثورة 23 يوليو فى مصر والقذافى فى ليبيا. بعض الحكام قضوا فى الحكم فترات تجاوزت الثلاثين والاربعين عاما فى بعض الحالات وهى فترات طويلة تجلب الضجر والملل وقد ذكر الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل من قبل فى نقده لانظمةالحكم العربية « أن هناك قيادات عربية جلست فى مقاعد الحكم حتى تكلست» ، وفى اعتصامات ميدان التحرير بالقاهرة قال احد الشباب من المتظاهرين « انا منذ ان ولدت لم اسمع او ارى غير رئيس واحد فقط هو الرئيس مبارك خلاص كفاية بقى». فى الدول الديمقراطية جرت التقاليد أن لا يتم التجديد للرئيس المنتخب لاكثر من مرة ، وكان الاستثناء الوحيد الذى تم فى تاريخ الولاياتالمتحدة هو للرئيس رقم 32 روزفلت(1933-1945) الذى اعيد انتخابه اربعة مرات وتوفى قبل ان يكمل دورته الاخيرة وهى الفترة التى صادفت الظروف التى ادت الى اندلاع الحرب العالمية الثانية ونهايتها ، وقد لعب روزفلت دورا كبيرا فى اخراج الولاياتالمتحدة من الكساد الاقتصادى الذى شهدته فى الثلاثينات , كما قاد الحلفاء الى الانتصار على المانيا النازية واصبحت امريكا على يديه دولة عظمى. والمغزى من تكرار انتخاب روزفلت هو أنه لابد من وجود مبررات قوية وضرورية ملحة لاستمرار رؤساء الدول فى الحكم لاكثر من سنوات معقولة . منذ نهاية القرن السابع عشر عندما ظهرت فكرة تداول السلطة والانتخابات ، اثبتت التجارب الانسانية أن الحزب الذى يحكم لدورتين ( ثمانى سنوات ) تصبح فرصته شبه معدومة فى الرجوع الى السلطة فى معظم الاحيان ، لان الراى العام بعد هذه الفترة لا يحسب الانجازات ولكن يحسب الاخفاقات باعتبار أن الحزب يكون فى هذه السنوات قد قدم افضل ما عنده من برامج وخبرات وقيادات ، كما أن عشر سنوات كافية لخروج افكار جديدة لدى الاخرين ويجب أن تتاح لهم الفرصة للاختبار امام الراى العام لتجديد التفويض . لا توجد معادلة فى الدنيا وفقا لعلم الرياضيات والاحصاء ودراسات الراى العام يمكن أن تمنح حزباً سياسىاً تفويضا شعبيا باكثر من 55% الى 60% من جملة الناخبين فى احسن الحالات ، ولعل ما حدث فى انتخابات مجلس الشعب المصرى الاخيرة التى حققت للحزب الوطنى اكثر من 90% من المقاعد كان من ضمن الاسباب الرئيسية لاحداث ميدان التحرير بالقاهرة ويتحمل مسئول التنظيم بالحزب الوطنى المصرى احمد عز نتيجتها الكارثية، وعطفا على ما حدث فى الانتخابات الاخيرة فى السودان لابد أن هناك خللا ما قد حدث فى العملية الانتخابية ، وهذا الخلل ليس بالضرورة أن يكون تزويرا ، ولكنه قد يرتبط بفرص التعبير والتنظيم والاستعداد المتاح للاخرين من احزاب وناخبين، اعتقد أن رياح التغير التى تحدث فى العالم العربى يجب أن ينظر اليها بقدر من الجدية والاعتبار وليس الاستهزاء ودفن الرؤس فى الرمال . د.صلاح محمد إبراهيم