تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    بالفيزياء والرياضيات والقياسات العقلية، الجيش السوداني أسطورة عسكرية    دبابيس ودالشريف    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    مناوي ل "المحقق": الفاشر ستكون مقبرة للدعم السريع وشرعنا في الجهود العسكرية لإزالة الحصار عنها    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    السودان يطلب عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة العدوان الإماراتي    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص محاضرة الدكتور غازي صلاح صلاح الدين في ندوة مركز الحوار والتواصل الحضاري بالتعاون مع صحيفة «الإنتباهة» بقاعة الشارقة أمس (1 - 2)
نشر في الانتباهة يوم 19 - 01 - 2012

في ما يلي نص محاضرة الدكتور غازي صلاح صلاح الدين في ندوة مركز الحوار والتواصل الحضاري بالتعاون مع صحيفة الإنتباهة ، أمس بقاعة الشارقة بالخرطوم التي عقب عليها الدكنور امين حسن عمر والدكتور عبد الله علي إبراهيم:
صعود الاسلاميين: دلالاته ومآلاته
يلزم في مقدمة هذه المحاضرة تعريف المقصود بالإسلاميين وبصعودهم. إن الإسلام، أو الدين عموما، من حيث نفوذه على السياسة، لم يغب عن الساحة العامة في أي حقبة من تاريخ البشرية العام أو تاريخ المسلمين الخاص. ففي الإسلام نصب الإمام واجب، كما هو معلوم، عند السنة وفريضة عند الاثني عشرية. وعبر التاريخ الطويل وظف أغلب الحكام الدين لإضفاء مشروعية على حكمهم، حتى إن كانوا علمانيين أو غير ملتزمين بضوابط الدين في معتقداتهم ومعاملاتهم.
وفي الحقبة الحديثة، عندما ظهرت الأحزاب السياسية في العالم الإسلامي بسبب الاحتكاك بالحضارة الغربية، عملت بعض الأحزاب الموسومة بالتقليدية على تكريس نمط قيادة مرتبطة بأطروحة دينية. وأحيناً أخرى كان الارتباط من خلال سند طائفي ديني.
هذه الأنماط الموصوفة أعلاه، التاريخي منها والمعاصر، لا تندرج في مصطلح الحركات أو الأحزاب الإسلامية، أو باختصار الإسلاميين. ما يندرج في المصطلح المذكور هي الجماعات التي انطلقت من رؤية كلية معاصرة للإسلام، بحيث أصبح الإسلام عندها محدداً فقهياً وضابطاً شاملا لكل مشارب الحياة بما في ذلك السياسة العامة، مع الاعتبار بحقائق العصر وخصائصه. وقد انبثقت تلك الرؤية من فكرة أساسية هي أن الحياة كلها، الخاصة والعامة، ينبغي أن تكرس لعبادة الله، لقوله سبحانه وتعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
يختلف الدارسون في تقصي أصول هذا التيار الحديث، لكن كثيراً من الذين كتبوا حول الموضوع افترضوا أن المحاولات الأولية التي قام بها جمال الدين الأفغاني في دعوته إلى»الوحدة الإسلامية» مثلت وعياً مبكراً بالحاجة إلى رؤية معاصرة يواجه بها المسلون المتفرقون الموجة الاستعمارية التي نشطت في القرن التاسع عشر. وكما هو معلوم فقد جعل ذلك المزج ما بين السياسة الدولية والإسلام من الأفغاني شخصاً غير أثير لدى الحكام فنفي أكثر من مرة.
وبرغم الفوارق الشخصية والفكرية بين الأفغاني وحواريه الإمام محمد عبده، وبرغم اعتراض كثير من الإسلاميين على اجتهادات الأخير، فإن إنتاجه الفكري والفقهي الثر مثل محاولات لصياغة استجابات معاصرة للتحدي الحضاري الغربي. وقد أثّر كلا الرجلين، ولا يزالان يؤثّران، على تفكير كثير من المسلمين المعاصرين.
لكن نقطة التحول الأهم في نشأة التيار الإسلامي جاءت مع قيام الحركة التي أسسها حسن البنا والتي وضعت أساساً أوضح وأشمل لفكر الإسلاميين. لم توفر أفكار حسن البنا إطاراً فكرياً فحسب، بل أضافت قوة عملية لتلك الأفكار من خلال إنشاء تنظيم يجسدها ويدفع الدعوة إليها. ومن هنا تفرع ما أسمي الفقه الحركي الذي كان له دور كبير في تشكيل مفاهيم الإسلاميين في العمل العام وتوليد منظومة جديدة من الأفكار والاجتهادات لمقابلة القضايا المعاصرة. منذ ذلك الوقت لم تعد أفكار الإسلاميين محض جدليات نظرية في الصحائف، لكنها تحولت إلى حركة حيه تتحدى كل صباح الأنماط والتقاليد السائدة.
لكن الفكر الذي ورّثه البنا تعرض لإضافات وتعديلات مهمة. من ذلك ما ورد من أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي التي يرى فيها كثير من ناقديهم تأسيساً لمفاهيم العزلة والتكفير.
سيكون من المفيد للدارسين المتعمقين، أن يقارنوا تطور فكر الإسلاميين في السنوات العشرين الأخيرة ليروا مفارقته لبعض الاتجاهات الأساسية لفكر البنا وما تلاه من أفكار سيد قطب والمودودي؛ في قضية الحاكمية على سبيل المثال التي تتخذ حيزاً أقل أهمية في الخطاب الإسلامي الحالي مقارنة بما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة. وكثير من أفكار الإسلاميين اللاحقة تطورت من خلال مجادلة حية مع الواقع دون أن تنتسب لشخص بعينه ولذلك فهي أمكث وأبقى في المستقبل من الأفكار التي قوبلت برفض شديد من قبل الإسلاميين وغيرهم، كالأفكار التكفيرية. ويمكن في النهاية ان نفترض مساراً لمستقبل الفكر الإسلامي المعاصر والحركات الإسلامية تأسيساً على قابلية تلك الحركات وأفكارها للتطور.

صعود الإسلاميين
ينحوا بعض المعلقين على الأحداث إلى الاعتقاد بأن صعود الإسلاميين عبر الإنتخابات هو ظاهرة جديدة حدثت جراء ما سمي بالربيع العربي. وهذا اعتقاد غير دقيق قد يؤدي إلى استنتاجات غير صحيحة. إن صعود التيارات الإسلامية عبر الانتخابات يمتد إلى ما قبل الفترة الراهنة بأكثر من عقدين. بل إن من الإسلاميين من يؤمن بأن رصيدهم الاقتراعي ظل دوماً متقدماً عن ما لدى الآخرين لو أنه اقيمت انتخابات نزيهة. وهذا بالطبع قول لا يمكن إثباته أو نفيه في غياب إختبار انتخابي عملي. أما إذا أردنا أن نحدد بدقة قوة الإسلاميين الاقتراعية فعلينا الاحتكام إلى الاختبارات الموضوعية التي وفرتها الانتخابات التي جرت في عدة دول إسلامية.
كان أول صعود مفاجئ للإسلاميين في السودان في انتخابات 1986م، حيث برزت الجبهة الإسلامية القومية قوة ثالثة أمسكت بميزان السلطة بين القوتين الأخريين. وقد ساد إعتقاد بأن تلك النتيجة كانت ظاهرة سودانيه محضة إرتبطت حصراً بفاعلية الحركة الإسلامية في السودان. لكن ما إن مضت سنوات قليلة حتى تكررت الظاهرة بصورة أقوى وأكثر جماهيرية في تجربة جبهة الإنقاذ الجزائرية التي حصدت غالبية الأصوات في انتخابات حرة عام 1991. ثم لم تمض أعوام قليلة حتى انتقلت الظاهرة إلى تركيا بفوز حزب الرفاه الإسلامي بقيادة البروفيسور نجم الدين أربكان الذي أصبح أول رئيس وزراء إسلامي منتخب عام 1996، إلى أن أزيح وحل حزبه بواسطة العسكريين الأتراك الذين ندبوا أنفسهم لحماية العلمانية الأتاتوركية. لكن الإسلاميين الأتراك ما لبثوا أن عادوا أقوى من ذي قبل، في دورتين انتخابيتين متعاقبتين ابتداءً من 2002م، تدفعهم إنجازات اقتصادية واجتماعية محسوسة، هذه المرة تحت راية حزب التنمية والعدالة بقيادة رجب طيب أردوغان. ولأول مرة يشغل الإسلاميون مقعدي رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية في تركيا. ثم جاءت الانتخابات التشريعية الفلسطينية سنة 2006 التي فازت فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأغلبية مريحة وكوّنت الحكومة الفلسطينية.
والآن تشغل الساحة سبعة حكومات تكونت أو في طريقها للتكوين يغلب عليها الإسلاميون، في مصر، تونس، والمغرب، ليبيا، وبالطبع قبل ذلك تركيا والسودان وفلسطين.
إن تتابع فوز الإسلاميين في فترة وجيزة بعد أحداث الربيع العربي صرف اهتمام المراقبين عن تدبر هذه التحولات من جذورها، خارج إطار الأحداث الأخيرة في البلاد العربية. إن الدراسة المتأنية لأسباب هذه التحولات يجعل من التقويم أكثر موضوعية والتنبؤ بما يحمله المستقبل أكثر دقة.
قوة الإسلاميين وجاذبيتهم
صعود الغرب المادي والثقافي، ثم استيلاؤه على المنطقة الإسلامية، شكل أكبر حافز لنشأة التيار الإسلامي. ولم يكن مدهشاً أن يقتبس ذلك التيار نفسه من أدوات الغرب وآلياته، وربما حتى من أفكاره، ليتصدى للتحديات التي واجهته. هذه ظاهرة معلومة في التاريخ، أن يقتبس المغلوب من مفاهيم الغالب وأساليبه. والغرب نفسه أسس نهضته على ما اقتبسه من أدوات العلم والمعرفة التي برع فيها المسلمون، فليس من المفارقة إذن أن تكون بعض عناصر قوة الإسلاميين ناشئة من حسن اقتباسهم من التجارب الغربية. على سبيل المثال فإن واحدة من أهم عناصر قوة الإسلاميين هي قوة التنظيم وفاعليته، وهي فائدة مستمد من علوم التنظيم والإدارة الحديثة التي تطورت في الغرب. بل إن بعضهم يزعم أن الإسلاميين قد استفادوا حتى من التجارب التنظيمية لأعدائهم المذهبيين وهم الشيوعيون. هذه الملكة أعطت، وما تزال تعطي، الإسلاميين ميزة نسبية في أي نشاط تعبوي، سواءً كان انتخابات عامة، أو حملات سياسية، أو مطالبات فئوية.
وهذه الخبرة، يتعدى أثرها محض القدرة على الانضباط والكفاءة التنظيمية إلى المهارة في تشكيل تنظيمات جديدة، فئويه ونقابيه واجتماعية تعين على استيعاب جمهور متعدد الإهتمامات والأولويات. فلم تعد الأسرة، ولا الوحدة التنظيمية، ولا الخلية هي وحدها الوعاء الذي تعمل من خلاله الجماعة، ولكن ما وراء ذلك من مواعين شعبية تنظم الأداء الجمعي و تحيط باهتمامات الموالين والمتعاطفين المتعددة. وهكذا لم تعد العضوية مقتصرة على أصحاب الاهتمامات الدعوية المباشرة، لكنها تعدت إلى كل فئات المجتمع من مثقفين وعلماء وطلاب وتنظيمات نسائية وروابط فنية وثقافية ورياضية..إلخ.
من الصفات التي تكسب الحركات الإسلامية قوة داخلية وتعطيها ميزة على كثير من منافسيها هي القدرة على تبني مبادرات جديدة في المجالات الاجتماعية والثقافية، وحتى الرياضية؛ وهذا يحقق هدفين: أولا، يجعل تلك الحركات قريبة من قاعدة المجتمع، وثانياً، يشجع عضويتها النشطة والمتحفزة لإنتاج مبادرات جديدة تضمن لها الجماعة الحماية والرعاية. إن هذه الصفة، التي تفتقد في بعض التنظيمات الأخرى، تستقطب بصورة خاصة الشباب الذين يجدون من خلالها متنفسا لطاقاتهم الجسدية والفكرية، وهي لذلك واحدة من أقوى عوامل جذب الإسلاميين.
في معظم نماذج الاستبداد والاضطهاد التي عرفها العالم الإسلامي في مائة الأعوام السابقة نال الإسلاميون نصيباً وافراً من الملاحقة والعقوبة. وفي أحداث الربيع العربي الأخيرة قدموا أمثلة للاستعداد للتضحية في سبيل أفكارهم وتلقي العقاب بسببها، بالسجن أو التشريد أو الاستشهاد. وقد أكسبهم ذلك رصيداً نضالياً واعترافاً بالاستحقاق من جمهور الناس. وسيبقى هذا الرصيد ما ظلت تضحيات الإسلاميين حية وشاخصة، وما لم يتحولوا هم أنفسهم إلى أدوات اضطهاد لخصومهم.
إن الإسلاميين ليسوا ليبراليين في الأساس، بل هم أقرب إلى المحافظة في أفكارهم الاجتماعية، وهو ما قد يضعف جاذبيتهم في مجتمعات تزداد نفوراً من تجارب الهندسة الاجتماعية، وتقييد السلوك، وتحديد الخيارات الشخصية . لكنهم يعوضون ميلهم نحو المحافظة في المجال الاجتماعي بقدرتهم على تبني أفكار جديدة ومبتكرة في الجانبين السياسي والاقتصادي. ويكفي في المجال الإقتصادي، على سبيل المثال، أن الإسلاميين قدموا محاولة جريئة لمنافسة النظام الاقتصادي الغربي، الذي أصبح، من قوته، يحدد المعايير للنظام الاقتصادي العالمي. ومع الفوارق الكبيرة بين ما حققه الاقتصاد الغربي وما حققه الاقتصاد الإسلامي حتى الآن، من حيث الكم، فلا مشاحة في أن الإنهيار الكامل للإقتصاد السوفيتي والأزمة الحرجه التي يواجهها النظام الإقتصادي الغربي، وهي أزمة أبرزت إلى السطح جدلاً ليس في جزئيات ذلك النظام بل في كلياته وأفكاره الأساسية، لا مشاحة في أن ذلك أعطى قدراً من المصداقية لمبادئ الاقتصاد الإسلامي إن لم يكن للحلول العملية التي يقترحها. وينبغي الملاحظة هنا أن تلك المكتسبات في مجال الاقتصاد الإسلامي نتجت بصورة أساسية، على الأقل في مراحلها الأولى، من مجهودات فردية وجماعية في معظمها لم تكن مرتبطة بخطط الدول والحكومات أو معتمدة على دعمها. بل إن بعض الحكومات حاربت التجربة الاقتصادية الإسلامية، ثم رضخت لها لاحقاً بدرجة محدودة. هذه القدرة على العمل والإنجاز المؤثر الذي يعدل النظم القائمة أو يغيرها، بمعزل عن دعم الحكومات، وأحياناً برغم عدائها أعطى التجربة الإسلامية استقلالا وقوة.
بنفس القدر الذي يشكك فيه البعض في ليبرالية الإسلاميين، يشكك آخرون في التزامهم الديمقراطي، ويرون أن الحماس الذي يبديه الإسلاميون نحو الديمقراطية هذه الأيام ليس نابعاً من التزام حقيقي سيصمد أمام اختبارات السياسة، لكنه نابع من مصالح ظرفية. الأيام وحدها هي التي ستبدي صحة هذا الرأي أو ذاك، ولا جدوى من الجدل حول النوايا لأن التحقق منها مستحيل دون اختبارات عملية ستتوفر بكثرة في المرحلة القادمة. لكن من أهم أسباب قوة الإسلاميين، بغض النظر عن مدى إلتزامهم بالديمقراطية مع الآخرين، هي التزامهم بقدر كبير من الديمقراطية في تقاليدهم الداخلية، مع التفاوت في ذلك بالطبع بين الحركات الإسلامية في البلاد المختلفة. إن التمسك بتلك التقاليد قد أسهم في تحقيق إنجازين رئيسين، كان لتحقيقهما أكبرالأثر، ليس فقط في تقوية تنظيمات الإسلاميين الشعبية، بل أيضاً في إعطائها جاذبية لدى الشباب والمثقفين. أولاً، تعميق الفهم المؤسسي الذي عزز بدوره الاستقرار الداخلي. فالمؤسسية عمقت النزعة إلى التحاكم إلى إجراءات موضوعية لا يمكن الاحتجاج عليها، حيث أن الجميع يتساوون أمامها، وساهمت بذلك في محاربة الميول القبلية والجهوية وسياسة احتكار المناصب لأفراد الأسرة، مما تبتلى به التنظيمات التي لا تسود فيها ديمقراطية داخلية. ثانياً، هو أن نظام الحرية الداخلي، وقدرة الأفراد إذا ما نسقوا جهودهم أن يضعوا الأجندة، سمح لأولئك الأفراد بإطلاق مبادراتهم وجعلها برامج للجماعة كلها، وهذا ما أعطى التنظيمات الإسلامية جاذبية لدى الطبقة المتوسطة وفئات المثقفين والمهنيين المتطلعين دوماً إلى أدوار ومبادرات جديدة.
بيد أن كل المذكور آنفاً من أسباب القوة هو مما يمكن أن يتحقق لأي جماعة دينية كانت أو علمانية. أي أنه ليس بالضرورة أن يحوز فيه الإسلاميون التفوق على الآخرين. الذي يخصص الإسلاميين ويعطيهم ميزة فارقة هو تبنيهم للطرح الإسلامي في مجتمعات يعطي أفرادها الإسلام وزناً كبيراً في تحديد خياراتهم في الحياة الخاصة والعامة. إذا عدنا إلى الوراء قليلاً سنتذكر أن نشأة التيار الإسلامي بدأت مع تصاعد التحدي الحضاري الغربي. وفي وجه ذلك التحدي قامت حركات قومية ووطنية متفاوتة النجاح، لكن لم تستطع أي من تلك الحركات إحراز نصر حاسم في معركة المواجهة تلك. وأخيراً برز الخيار الإسلامي كمعبر أفضل وملهم أقوى للمجتمعات الإسلامية.
بالطبع لا يمكن الإنكار أن حركات قومية ووطنية تبنت بعض أطروحات إسلامية، لكن ما ميز طرح الحركات الإسلامية هو، بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً عن طبيعته الشاملة، وقدرته على الاستنفار والتعبئة، هي مرونته وقابليته لأن يعطي إجابات للأسئلة المعاصرة. بالطبع، أيضاً، على تفاوت بين التجارب الإسلامية في كل بلد في تحقيق ذلك الهدف، فإن بعض الحركات الإسلامية لم تغادر مرحلة الشعارات قط.
هذه القدرة على إنتاج أفكار جديدة أو تجديد أفكار قديمة، هذه المرونة في التكيف النظري، في تحرير المسائل، وترتيب الأجندة، واقتراح البدائل، كانت وستظل الخصيصة التي سيصعد بسببها الإسلاميون أو يهبطون.
تحليل القوة الاقتراعية للأسلاميين في تجارب ثورة الربيع العربي
تميزت نتائج الإنتخابات التشريعية في ثلاث بلاد جرت فيها الإنتخابات بعد أحداث ثورة الربيع العربي، بسمات مثيرة للإهتمام. فقد تجاوز ما حصلت عليه المجموعتان الإسلاميتان (الإخوان والسلفيون) في مصر الستين بالمائة. بينما حصل الاسلاميون وحدهم في تونس والمغرب على أكثرمن 40% من الاصوات. وهذا شبيه بما حصل عليه حزب التنمية والعدالة في تركيا.
إن حصول أي حزب في انتخابات تعددية تشريعية على أكثر من 40% من الأصوات يمنح الحزب أغلبية برلمانية تمكنه من تشكيل الحكومة وحده، وهو ماحدث في الحالة التركية.
لكن المهم هو تحليل تلك الأرقام حتى تتبين القوة الاقتراعية الفعلية التي يمكن للإسلاميين التعويل عليها. إن نسبة تأييد أي حزب وسط الناخبين تعتمد على نسبة النواة الصلبة من المقترعين المؤيدين، أي المقترعين الذين يصوتون للحزب مهما كان أداؤه. وهذه تقابلها النسبة المتحولة، أي نسبة الذين يصوتون للحزب بسبب عارض قد يزول فيفقد الحزب تأييده من هذا القطاع من المقترعين. وتتفاوت الأسباب العارضة، فقد يصوت بعضهم بسبب أن الحزب يحقق الرخاء الإقتصادي، كما حدث في الحالة التركية؛ أو لأن الحزب إذا تولى الحكم سيجعل البلد أكثر أماناً، أو أفضل أخلاقاً؛ أو ربما يصوت بعضهم فقط بسبب الكفاءة الإدارية لناشطي الحزب الذين وفروا له كل الخدمات من أجل التصويت، حتى التوجيه لمن يصوت.
وفي الحقيقة، قياساً على تجارب الانتخابات في بلاد عديدة يصعب أن تتجاوز النواة الصلبة لأي حزب أكثر من 15—20% من المقترعين. وهذه هي النسبة الحقيقية التي ينبغي أن يبني عليها الإسلاميون حساباتهم ويحددون توقعاتهم من الديمقراطية. وهي على كل حال نسبه ليست ضئيلة، فهناك حالات قادت فيها أحزاب حصلت على تلك النسبة حكومات ائتلافيه أو شاركت فيها.
مايهم هو أن رصيد الإسلاميين في الإنتخابات القادمة لن ينخفض عن 15-20% في أسوأ حالاته، وستبقي نسبة متحولة من المقترعين ما بين 30 إلى 40 بالمائة مجالاً للمنافسة بينهم والآخرين، وهو ما يرشح الإسلاميين لأن يبقوا قوة مؤثرة في السياسة في العقدين القادمين على الأقل.
التحديات الأساسية التي ستواجه حكم الإسلاميين
إن أداء الحركات الإسلامية في الحكم، سيكون أهم محدد لمصيرها وحكم التاريخ نحوها. وبسبب أنها رفعت شعار الإسلام فإن الأحكام الصادرة حول أدائها، ومن ثم القول باستحقاقها، ستكون بمعايير أقسى من تلك التي يصدر الناس أحكامهم وفقها بالنسبة للحركات السياسية الأخرى. ذلك أن رفع شعار الإسلام يتضمن، في نظر جمهور الناس، وعداً سماوياً إضافياً بتحقيق النصر والفلاح. أي أن توقعات المجتمع ستبدأ من نقطة أعلى مما لو كان برنامج الحزب السياسي علمانياً محضاً. التذكير المستمر في الخطاب الإسلامي بهذا البعد السماوي كما في الآية: «ولو أن أهل القرى آمنو واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض» يضيف عاملاً غيبياً غير محسوب العد أو التقدير. وسيظل الإسلاميون محكومين بهذا التوقع من جمهور منحهم تفويضاً مشروطاً لأنه جمهور يؤمن حقاً بهذا الوعد الإلهي دون تدقيق في السنن التي تتحقق بها الوعود الإلهية، كالبركة في الزرع والضرع، أو النصر على الأعداء.
هناك محدد آخر مهم، وهو المحدد الأخلاقي. مرة ثانية فإن رفع شعار الإسلام سيعني بداهة أن المعايير الأخلاقية التي سيطبقها المجتمع في الحكم بشأن الإسلاميين وأدائهم ستكون شديدة الحساب والضبط. هذا طبيعي، لأن ما ميز المشروع الإسلامي المعاصر هو مبدأ شمول النظرية الإسلامية، ومن ضمن ذلك الربط الوثيق ما بين نظامي الأخلاق السياسة.
ستكون مهمة الإسلاميين صعبة منذ البداية، لأنه بالإضافة لخصوصية البعدين السالفين في تقويم حكم الإسلاميين، وهما البعد الغيبي والبعد الأخلاقي، فإن الجمهور يتوقع نجاحاً في كل بند من بنود قائمة الأماني التي يطالب بها الناخبون من يقدمونه لقياداتهم: الأمن، المعاش، التعليم والخدمات عموماً.
سيكون التحدي الأول والأعجل في نظر الجمهور هو تحدي الإقتصاد والخدمات وهو تحد معقد في ذاته في ظل نظم حكم وإدارة منهارة، وموارد طبيعية شحيحه في معظم الحالات(مصر، تونس، المغرب) وقيم عمل وإنتاج ضعيفة، ونمو متصاعد لطبقة متوسطة قلقة ذات مطالب ملحاحة وأهداف تنمية بعيدة المنال.
فضلاً عن هذه التعقيدات العامة فإن المصاعب الاقتصادية في معظم البلدان ستزداد بسبب أن الحكومات المخلوعة ربطت اقتصاداتها ربطاً وثيقاً بالاقتصادات الأوربية والأمريكية. وقد تضمن هذا الربط مشروطيات سياسية معلومة، سيكون صعباً على الحركات الإسلامية، التي تعرض نفسها أيضاً باعتبارها حركات تحرر وطني، أن تقبلها. فضلاً عن أن هذه الشروط قد تصادم ثوابت مذهبية لدى الإسلاميين أو أحكاماً شرعية. وحتى على افتراض أن التعقيدات المذهبية قد زالت، فإن الصعوبات العملية ستبقى في ظل الأزمة الاقتصادية المصيرية التي تواجهها منطقة اليورو كما يواجهها الاقتصاد الأمريكي، وهما أزمتان تعيدان ترتيب النظام الاقتصادي العالمي برمته.
إذاً، لسوء حظ الإسلاميين، وربما لحسن حظهم، فإنهم قد تسلموا الحكم والعالم يودع نظريات مجتمع الرفاهية والخدمات المدعومة ويستقبل تنافساً عالمياً شرساً على الموارد والأسواق. إن أي انهيار سريع في الاقتصاد أو الخدمات سيحول تجربة حكم الإسلاميين إلى كابوس سياسي ويضع حكومات الحركات الإسلامية على المحك، إذ أنه سيؤثر مباشرة على كتلة ال 30-40% التي وصفناها سابقاً بأنها الكتلة المتحركه بين القوى السياسية، بمقابل ال1520% التي هي كتلة الولاء الصلب.
سيكون أمام الإسلاميين، بالإضافة إلى معالجة التحدي الاقتصادي، معالجة التحدي الثقافي الإجتماعي. بعض عناصر هذا التحدي تكمن في الرؤية المذهبية أو الفقهية للحركات الإسلامية واحتمال مصادمتها للمفاهيم والسلوكيات الشائعة. والتعقيدات هنا لا تتوقف عند البعد النظري أو الفقهي، بل تتعداه إلى صعوبات عملية في الواقع. قضية حقوق المرأة على سبيل المثال تأخذ أولوية، خاصة في تونس والمغرب. وهناك حراك يومي متصاعد داخلياً ومتفاعل خارجياً حولها، خاصة مع الدول الغربية،. هناك قضية الفن، وهي أيضاً ليست قضية نظرية محضة، فبلد مثل مصر هو من أغزر البلاد إنتاجاً فنياً، وهو إنتاج فني ذو بعد سياسي لأنه ظل جزءً لا يتجزأ من النفوذ المعنوي لمصر في محيطها العربي الحيوي. هناك أيضاً قضية السياحة الجماعية وتأثيراتها السالبة على سلوكيات المجتمع. لكن السياحة في بعض تلك البلدان ليست مناط نظر فقهي مجرد، بل هي قضية ذات مضمون سياسي معقد في بلاد يعتمد اقتصادها الوطني على السياحة اعتمادا شديداً.
هناك تحدي التعايش الديني والأقليات الذي يوجد بدرجات متفاوتة بين مجتمع وآخر، لكنه يشكل جانباً مهماً وحاضراً من الأجندة السياسية، وهو ذو آثار على الحكم وتداعيات عملية يومية.
فضلاً عن تلك التحديات العامة، هناك تحديات محلية خاصة بكل مجتمع، سيكون على الإسلاميين في كل حالة أن يجتهدوا في معالجتها. على سبيل المثال شبح الفتنة الطائفية في مصر يمثل تحدياً خاصاً بها. بينما يشكل تحدي القبلية أو الجهوية تحدياً خاصاً في ليبيا والسودان. دور الجيش باعتباره عاملاً فاعلاً في السياسة يمثل تحدياً بالنسبة لمصر، ولكن ليس بالنسبة إلى تونس. الطائفية الدينية تمثل تحدياً في بعض دول الخليج وفي سوريا بينما لا تمثل تحدياً ملموساً في المناطق التي يسود فيها المذهب المالكي، إلا ما ظهر مؤخراً من دخول المذهب الشيعي في بعض البلاد الافريقية.
وأخيراً، من المهم أن نلاحظ أن تحدي التحديث في المجتمعات الإسلامية يفرض نفسه بإلحاح قدري، ويتضاعف إلهامه لدى الطبقة المتوسطة النامية في تلك المجتمعات. التحديث، بكل وعوده، يمثل أقوى محرك للمجتمعات العربية والإسلامية، فالناس على اختلاف مللهم ومذاهبهم السياسية يرغبون في حياة أفضل، وهم يرون في تجارب الإنسانية أن التحديث المستند إلى قوة العلم يحل المشكلات المعقدة ويغير حياة الناس إلى الأحسن والأكرم. المعضلة التي ستواجهها الحركات الإسلامية هي أن تثبت أن التوفيق بين الإسلام والتحديث ممكن. بل من واجبها أن تثبت أن الرؤية الإسلامية يمكنها أن تدفع عملية التحديث بأكثر مما تفعل الرؤى السياسية الأخرى. إن التاريخ يسعه أن يثبت أن هذا الزعم صحيح، بل أنه قد تحقق في التاريخ حين قاد المسلمون حركة النهضة العلمية التي غيرت وجه العالم واستند إلى مكتسباتها الغرب في نهضته.
إن مقابلة هذه التحديات بنجاح يستدعي خطاباً إسلامياً جديداً. فالتفويض الذي منحته المجتمعات للإسلاميين قد يعني إقراراً نظرياً بالشعار التاريخي البسيط بأن «الإسلام هو الحل»، لكن تلك المجتمعات لن تعيد منح ذلك التفويض إلا إذا استطاع الإسلاميون أن يثبتوا أن رؤيتهم للإسلام حقاً تقدم حلولاً وإجابات ناجحة للتحديات المذكورة وتحديات أخرى لم يتسع المجال لذكرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.