الله يا مصر.. يا هبة النيل.. يا مهد الحضارات والتاريخ والتسابيح.. مصر يا من سهر الدمع في عينيك الجميلتين حتى تألق الفجر بين يديك، واشتعل الضحى في مقلتيك وتفتحت أزاهير الفراديس تحت قدميك، وليس هذا كثير عليك يا مصر يا أم الدنيا وكما هو معلوم.. الجنة تحت أقدام الأمهات. تداعت هذه الخواطر وأنا في حضرة (سانحة استماع) لشاعر العامية المصري الوريف أحمد فؤاد نجم الذي تحامل على نفسه وهو يحمل ثقل السبعين والزمن الطويل على كتفيه، ونزل ميدان التحرير (هايد بارك) الشباب المصري الثائر (البرانديو) موديل يناير 2011م، ومن بين هدير أناشيد الحرية وتهاليل الإنعتاق التي اسقطت (سليمان) وقبله الرأس الكبير.. جلس أحمد فؤاد نجم على رصيف البرد وأخرج من جيبه الخلفي (بردية) صغيرة وكتب عليها أول مواويله لثورة شباب مصر الذي نقر على قشرة محارة الصمت صباح يوم 25 ينابر 2011م.. كتب النجم أحمد فؤاد.. صباح الخير على الورد المفتح في جنائن مصر، وكان يجلس الى جواره المطرب الشاب الثائر مصطفى سعيد الذي قال عنه الموسيقار الكبير عمار الشريعي (مصطفى ده ولد فلته.. ده صوت مصر الثائر.. صوت يناير) وقال عنه أحمد فؤاد نجم: إيه الجمال ده.. إيه العظمة دي، وعندها صاح الشريعي ده ولله يانجم.. ده السنباطي اتولد من جديد.. اتولد من رحم يناير.. ياسلام ياجدعان.. دي مصر ولادة اوي اوي، فرد عليه الشاعر (النجم) ولله يا أبو مراد فعلاً مصر ولادة اوي اوي وقال: شوف يا ابو مراد مصر دي شمعة مضيئة في قاع النهر تطلع على السطح كل كام سنة وتنور العالم وترجع الشمعة الى مكانها في قاع النهر وهي مضيئة. الله يامصر يا قصيدة.. يا ملهمة كل فنان وشاعر.. مصر يا أنت.. يا مجد يناير.. يا وهج الشمس والإصرار والتحدي.. يا يوم أشرقت شمس التحدي في جمعة التحدي في 11 فبراير 2011م التي تماحقت في ظهيرتها سحب البارود والبمبان، وعند سواحل المساء خرج البيان.. بيان تنحي الرئيس حسني مبارك عن كرسي الحكم الطويل الأرجل، ثلاثون عاماً ونيف والرئيس على قمة الكرسي جالس وحواليه المجالس تسبِّح بحمده وهو جالس.. وكذلك مجالس (جمال) وأحمد عز وأبو الغيط وصفوت الشريف.. هذه العصبة المتحدة هي التي أدت الى تسارع خطوات انهيار نظام الرئيس مبارك. إننا في الشرق العربي عامة وفي السودان خاصة، درج حملة المباخر علي اطلاق البخور للحكام من الصباح وحتى السحور.. رائعة المبدع الراحل سيد خليفة التي صاغ كلماتها الدكتور الشاعر الراحل حسبو سليمان، وعندما يدق الحاكم (الدلجة) ترتفع الأصوات (المبخرة) بالمطالبة بسلخ فروة رأس نفس الحاكم، وهذا ماقام به تماماً.. تماماً الإعلام المصري والصحافة البيضاء وليس الصفراء للأسف الشديد. فالرئيس حسني مبارك ورغم ما قيل عنه بعد إنحسار الأضواء والإنزوا في (شرم الشيخ) فهو يستحق منا إستدعاء الذواكر وإنصاف تاريخه في محكمة التاريخ فهو البطل.. قائد السرب الذي حارب في اكتوبر وشارك في حرب الإستنزاف وبعد إنتهاء الحرب كان وبكل كفاءة وإقتدار قد أعاد لسلاح الطيران المصري هيبته وبنيته التحتية.. الأمر الذي لفت إليه نظر الرئيس الراحل أنور السادات فعينَّه نائباً له، فيما رفض مبارك تعيين نائب له طوال فترة حكمه حتى فجر يناير الثورة، حيث صدر مرسوم يقضي بتعيين عمر سليمان نائباً له (ويا فرحة ماتمت)، حيث كانت الفرصة مواتية جداً ليتسلم (عمر) زمام السلطة بعد فترة وجيزة، ولكن جاء الحدث بغير ماتشتهي السفن، وفقد عمر سليمان فرصة عمره في أن يكون رئيساً لأعظم دولة عربية. وعودة الى مسألة سلخ فروة رأس أي حاكم تسقطه الإرادة الجماهيرية من أعلى برج في العالم صنعه الإنسان، فإنه لا مناص من أن تتكاثر عليه السكاكين، وهذا لا يليق بأي قلم حضاري حبره يتنفس أصالة وفكراً وعطراً، فالرئيس حسني مبارك ظل يحمل سجله الوطني النظيف حتى خواتيم عام 1999م، حيث برز على السطح ابنه جمال وشاعت مسألة التوريث التي رفضتها كل جماهير القوى السياسية المصرية، ولكن الرئيس أصر عليها كما أصر على مواد الدستور السيئة السمعة التي تتيح للرئيس الترشح لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية لاي فترات ممكنة، وهذه (دكسة) أخرى للرئيس مبارك، ثم جاءت الطامة الكبرى، حيث اعتلى جمال مبارك أعلى المناصب السياسية في الحزب الوطني.. الحزب الحاكم وهو منصب لجنة السياسات في الحزب الذي يترأسه (بابا مبارك)، ولم يكتف جمال بذلك بل لوث تاريخه وتاريخ (بابا مبارك)، بل وتاريخ النظام كله بمقارباته المشبوهة مع رجال الأعمال في مصر، وأكثر من ذلك، وبواسطته الشخصية تم تعيين معظم الوزراء من أصدقائه في أخطر الوزارت ذات الطابع السيادي. عموماً حدث ماحدث وانتفض شباب مصر من أجل التغير فنالوا ما أرادوه عنوة ومن ثم تسارعت الخطوات وتم إعلان تولي الجيش للسلطة لفترة انتقالية تنتهي بقيام إنتخابات حرة ونزيهة بمصر، وفور هذا الإعلان تم بموجبه تولي المجلس الاعلي للقوات المسلحة المصرية مسؤولية السلطة بقيادة ذاك الفتى النوبي الأسمر الوشاح سعادة المشير محمد حسين طنطاوي، القائد العام ووزير الدفاع والانتاج الحربي، وقد ولد هذا الفتي النوبي في 31 اكتوبر 1935م من أب مصري نوبي وتخرج في الكلية الحربية عام 1956م، ثم التحق بكلية القيادة والاركان وكان المشير طنطاوي قد شارك في حرب 1967م وحرب الإستنزاف وحرب اكتوبر 1973م وكان آنذاك قائد وحدة مقاتلة في سلاح المشاة، وبعد الحرب حصل على نوط الشجاعة العسكري ثم عمل في عام 1975م ملحقاً عسكرياً لمصر في باكستان ثم في افغانستان، وهذا ما اكسبه الخبرة السياسية في مجاله العسكري وقد شغل المشير طنطاوي مناصب قيادية عديدة في القوات المسلحة المصرية قبل أن يكلفه الرئيس حسني مبارك بتولى مسؤولية القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية، والى جانب ذلك فقد تولى المشير طنطاوي العديد من المناصب والتكليفات العديدة التي يصعب ذكرها في هذه الزاوية الضيقة، ونال المشير عدداً من الأوسمة والنياشين والأنواط المهمة ولعل أعظم تلك المناصب والأوسمة هو توليه حكم مصر لفترة انتقالية يقود فيها البلاد الي بر الأمان بما في ذلك مطلوبات شباب (ميدان التحرير) الذي يعتبر الآن أعتى وأعظم وأقوى من ميادين القتال، (فلتهنأ مصر بهذا الفتى النوبي الأسمر الوشاح، وليبارك الله أرض الكنانة بعد الرحيل الكبير، وإن تبقى مصر شمعة مضيئة في قاع النهر).