عندما تنكفئ على نفسك ويلفك ظلام الإحباط، وبينما أنت في هذه الحال يأتيك من يهمه أمرك بشمعة تبدد الظلمة من حولك وتزيل حلكتها من عينيك، فلا شك في أنك تكون ممتناً لصاحب هذه المبادرة الطيبة، ولذا فإنني أشعر بعظيم الامتنان للأستاذة زينب السعيد على أخذها بيدي وإعادتي إلى حياضٍ خلتُ أني قد تهت عنها وفارقتها «فراق الطريفي لي جمله»، فقد كان لكلماتها الطيبة في حقي والتي أوردتها في عمودها المؤثر «زوايا المرايا» بتاريخ 21/2/2011 أثراً جميلاً في نفسي، وجعلتني أعيد تقدير موقفي من مواصلة كتابة «خلاصة الحكي»- وللأستاذة زينب ولكل من سأل عني في الفترة الأخيرة كل الشكر وجل التقدير.. ü عندما كنت ضابطاً برتبة النقيب شرطة «طيار» في أوائل الثمانينات من القرن الفارط، حضر إلى السودان وفدٌ من شرطة دولة الإمارات الشقيقة. وكان أن قام السيد الفريق شرطة عبد الله حسن سالم بتكليفي مع العميد شرطة أحمد السيد «عليه رحمة الله» والذي كان مديراً لإدارة العلاقات العامة بمرافقة الوفد طوال مدة إقامته بالسودان، كنت وقتها أسكن في الجزء الجنوبي الغربي من حي الشعبية بالخرطوم بحري، ولعلي انتهز هذه السانحة لأتقدم بتحية من القلب لسكان حي الشعبية بحري، فهم أشبه بعائلة واحدة طيبة وحنينة، تشد أزر بعضها البعض كالبنيان المرصوص.. ونتيجة لذلك التكليف كانت تأتيني في صباح كل يوم عربة مرسيدس من مراسم القصر الجمهوري يرفرف على مقدمتها علم السودان يقودها سائقها في زيّه الأبيض الناصع المزين أيضاً بعلم السودان على الكتفين، حيث كان ينتظرني واقفاً خارج السيارة ليلقي عليّ التحية العسكرية ثم يركب من بعدي ليقودني إلى فندق قصر الصداقة لننطلق من هناك في رفقة الوفد، وأمامنا عربة نجدة «موتر كيت» تفتح الطريق أمامنا، حيث تنساب على الطريق بلا توقف في أي تقاطع ولا تنصاع لأي إشارة مرور، لنقضي يومنا في اجتماعات على أعلى مستوى ونتناول مالذ وطاب من الأطعمة والأجواء كلها نظيفة وباردة ومنعشة بدءاً بالسيارة مروراً بقاعات الاجتماعات وانتهاءً بغرف الفنادق، «مافي سخانة ولا غبار ولا يحزنون».. وبعد مرور عدة أيام بدأت ألاحظ حدوث بعض التغيرات العضوية والنفسية على شخصي، بدأت تلك التغيرات بتغير في مشيتي -بقت في «نترة» واضحة في الرجل اليمنى وقليل من الميلان على الكتف اليمين أيضا وحركة رأسي ولفتاتي أخذت شكلاً مغايراً «لفتات زول ما عادي».. وبدا لي وكأنما قد خرقت الأرض وبلغت الجبال طولاً، ولم لا فقد كنت ضابطاً مميزاً «في بالي طبعاً».. في حوالي الثامنة والعشرين من عمري وهأنذا أصير ممثلاً لرئاسة الشرطة وللسودان ككل في تلك المهمة، إذن أنا مميز وما أحلى أن تكون مميزاً.. ولاحظت أيضا أنني بدأت أتعمد حضور سيارة القصر مبكراً بعض الشيء بينما أنا أمارس قدراً من التلكؤ المقصود داخل البيت حتى يتمكن أكبر عدد من سكان الحي من رؤية سيارة القصر أمام منزلي ومشاهدة «العبد لله» يخرج إليهم متلذذاً بنظراتهم المنبهرة بهذا الضابط الصغير، الذي يبدو عليه أنه (BIG SHOT) ولابد أنه شخص مهم.. وأنا المهم والناس جميعاً ما تهمني.. وهكذا كان لسان حالي يداعب نفسي، وعشت الدور واستمتعت به واستحليته لآخر قطرة فيه إلى حد أنني نسيت أن كل ذلك الزخم والبهرج هو في الواقع لفترة مؤقتة، إلى أن صحيت من غيبوبة العظمة التي انتهت بعودة الوفد للإمارات وعودتي لحافلة الترحيل الجماعي، فيالها من عظمة ويا لها من سلطة.. ربما تقولون بأنني شخص ضعيف وربما مريض، لكن في الحقيقة للسلطة حلاوة ما بعدها حلاوة بس انتو ما « ضقتوها» ساكت، فحلاوة السلطة تدعو من تذوقها إلى القتال للحفاظ عليها بالسيوف وحمايتها بالبنادق والدبابات إلى جانب شرطة الشغب.. والآن إذا كان ذلك حال أمرئ ذاق طعم العظمة والأهمية، وكان ذلك مبلغ التغيير في نفسه في فترة لم تتجاوز الأسبوعين، فكيف يكون الحال بالنسبة لوالي أو وزير أو رئيس جمهور ية، وكيف سيكون الدفاع عن ذلك الكرسي الجميل الخطير.. لاشك أنني أو أي شخص آخر سيكون عرضة للفساد والإفساد إذا لم يُراقب.. والفساد يعني بكل بساطة استغلال السلطة للربح والكسب بالمليارات، دون أدنى إحساس بأنه في حاجة غلط ولا المال مال حرام، وأشكال الفساد متعددة، فإذا كنتُ وزيراً مثلاً فإنني سأعمل على تحديث مباني وزارتي وأجعل من ابن اختي مثلاً مسؤولاً عن تنفيذ المباني بعد أن يتم التعاقد مع شركته التي هي في الأصل ملكي أنا، وربما أقوم بتكوين شركة نظافة مثلاً تستأثر بعقد ملياري لنظافة وزارتي، لأنه «الوزارة حقتي» وبالتالي «زيتنا في بيتنا»، وربما أقوم بعمل شركات طرق وكباري وأتحصل على عقودات، مستفيداً من الطفرة التي ربما تنتظم هذا المجال، أما إذا ما صرت رئيساً للجمهورية و«دي المتعة ذاتها»، فإنني سأفعل مثلما يفعل كل القادة العرب الأجلاء، وبخاصة من العسكر الذي تسلموا السلطة عن طريق الإنقلاب أو الذين ورثوها عن أي طريق كان، حيث أبدأ ثورياً أميناً يطرح الشعارات من كل شكل ولون، وما أن تدين لي الأمور فلابد أنني سأجعل بطانتي من أهلي من الحلفاويين ومن أحبائي الجعليين الذين ولدت ونشأت في ديارهم الطيبة، فأهلي وأحبابي لن ينقلبوا علي بالطبع، وبعد أن يطول أمد حكمي فإن هذا الشعب سيصبح ملكي ولن يقوى على العيش بدوني فأنا أبوهم وقائدهم الأوحد، ولن يجرؤ أحد على الخروج عن طوعي، لأني إذا ما زُحزحت عن كرسي الرئاسة ستعم الفوضى وستتمزق البلاد التي تتعرض لمؤامرات خارجية، وحتى نتفادى هذه الفوضى والتمزق لابد لي من جهاز أمن ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب، لأنني لن اعتمد على الشرطة وحدها.. ناس الشرطة ديل ما مضمونين بكرة بعد بكرة يكون فيهم واحد زي حمدي الصائغ ولا ماضي أحمد محمود يعمل لينا شوشرة في راسنا.. ولذلك فإن البلاد تحت قيادتي الرشيدة المحمية بجهاز أمني الباتع ستكون في أمان والشعب كله ح يأكل «فراخ» ولو بقوا ياكلو الطعمية في الغدا زي ما حاصل اليومين أنا ما ح أعرف زي الفساد الحاصل من حولي وأنا ما جايب خبر، ابتداء من حرمي المصون التي هي حتماً تتفوق على ليندا ماركوس وبنت الطرابلسي عقيلة بن علي- ديل أحسن منها في شنو- «قايلنها مرة نجار.. دي مرة رئيس جمهورية» كما قال المرحوم نميري، ولكن كل ذلك لايهم ما دام هنالك من يحشد لي المواكب ليهتفوا لي «أبوالسودان يا عثمان.. مسيرتك ظافرة يا ود طاهرة» مما يزيدني تثبيتاً على هذا الكرسي، فهو لي وحدي «قلعته وحدي» و«اتحكرت عليه وحدي والراجل يجي جنبو».!! خلاصة الحكي.. نحن معشر العسكر ومنذ تخرجنا في الكلية يحمل الكثيرون منا بذرة دكتاتور صغير بين جنباتهم، ويظل هذا الدكتاتور ينمو في دواخلنا مع ترقينا إلى الرتب الأعلى حيث تتسع دائرة «نعم سيادتك- وكله تمام يا سيادتك»،لا نطيق التردد في تنفيذ التعليمات ولا نسمح بمخالفتها على الإطلاق، فإذا ما أصبح الواحد منا رئيساً للجمهورية فإنه سيصبح الرئيس المطلق والحاكم الأوحد بأمر الله ويزداد عتواً على مر الأيام والسنين، والأمثلة دونكم لا تخفى عليكم، وها هم يتساقطون كأوراق الخريف واحداً تلو الآخر في هذه الأيام، وأذكر جيدا أن مجلة 6 أكتوبر المصرية وفي أول إصدارة لها بعد اغتيال السادات كانت قد أوردت صورة حسني مبارك على غلافها الخارجي ومكتوب تحتها بالبنط الكبير «سأكون أول رئيس مصري يحكم لدورتين»، ولكنه نسي أن يقول «دورتين الواحدة فيهم خمستاشر سنة!!»، فأين ذلك الوعد من وعد الرجل صاحب الوجه الصبوح المنير السيد عبد الرحمن سوارالذهب الذي وعد وأوفى وزهد عن سلطة جاءته على طبق من ذهب وصمد أمام صقور كانوا يريدون الانفراد بالسلطة، فنفذ بذلك بجلده عن الفساد والإفساد .وبناءً على ما سبق ومن واقع تجرتي القصيرة جداً، مع تذوق حلاوة وعظمة السلطة، فإنني أجد العذر لرؤسائنا في تشبثهم بالكرسي، فليسوا كلهم سوار الذهب، لأنه كرسي الرئاسة دا كان ضقتوه حلو حلا!!.. ولذلك يقول أحباؤنا في مصرالحبيبة: إنهم سيصنعون كرسي لرئيس الجمهورية من «التيفال» عشان ما حدش يلزق فيه!!.. ويا ريت يعملوا لينا واحد نحن كمان..!