ما بعد المسافة الفاصلة بيننا وما يدور حولنا وما المطلوبات التي تجعل من هذه المسافات تتسع وتتسع بحيث يصعب الوصول إليها لكون أن مقومات حدوثها لا تنطبق على بلدنا، بحيث يكون فعلاً السودان ليس تونس ولا مصر ولا ليبيا ولا البحرين ولا الجزائر ولا حتى سلطنة عمان. المتأمل لحالة الفوران والغليان في الشارع العربي وسرعة تصدير الثورات ويرى بأم عينه ما تقوم به الفضائيات، يكاد يجزم أن ليس هناك من هو في مأمن مهما حاول الاعتقاد بغير ذلك. هذا الشارع حير خبراء السياسة ومراكز البحوث ومراكز الإستراتيجيات بالقدر الذي أبرز نوعاً من التناقض أو التضارب حتى حول تحليل أسباب الثورات الشعبية وسرعة انتشارها، فالبعض خاصة مناصري الحكومات المنهارة.. لم يستبعدوا نظريات المؤامرة الأمريكية والإسرائيلية ضد العرب والشرق الأوسط عموماً.. ومحاولات تعديل للخارطة السياسية والجغرافية في المنطقة.. هي النظرية التي خرج رئيس اليمن علي عبد الله صالح ليؤكد عليها عندما ذكر في مؤتمره الصحفي الشهير الأيام الماضية، أن الثورات الشعبية في الدول العربية تديرها أمريكا من غرفة صغيرة في تل أبيب.. هذه النظرية تكون أقرب للتصديق عندما تخرج من علي عبد الله صالح الذي كان ولا زال من حلفاء أمريكا المقربين جداً لتنفيذ سياسات محاربة الإرهاب ومكافحته.. والعالم كله يدري كيف استفاد الرئيس اليمني من هذه الإستراتيجية في القضاء على الخصوم السياسيين قبل الإرهابيين. آخرون لا يذهبون بالتفسير بأبعد من لافتات المتظاهرين ومطالبتهم حقيقة بالتغيير لأنظمة جثمت على الصدور سنوات طويلة، ولم يجد منها الشعب غير الفقر والظلم وانتشار الفساد الاقتصادي والسياسي حتى أصبحت هذه الدول ملكاً خالصاً لهم.. يديرونها كما يديرون شركاتهم الخاصة الممولة بأموال الشعوب. العقيد القذافي نفسه والذي هو ملك ملوك أفريقيا ورسول الصحراء وفوق ذلك كله أنه لن يرحل، لأن الشعب يحبه وأفريقيا والعالم كله يحبه ولا توجد ثورة ضده وأن الشوارع هادئة والناس يمارسون حياتهم طبيعية كما زعم أمام إحدى الفضائيات الأمريكية.. حتى هو أكد ما يدور ضده هو مؤامرة إسرائيلية غربية.. لكن بالأمس كانت هناك معلومات جديدة ومن تل أبيب ذات نفسها، تؤكد أن مؤسسة الاستشارات الأمنية الإسرائيلية «غلوبل سي إس تي» كانت وراء إرسال المرتزقة من نيجيريا وتشاد ومالي والسنغال ومجموعات من جنوب السودان وأفراد من الحركات المتمردة في دارفور للقضاء على الثورة الليبية ودعم العقيد.. وأن ذلك تم بأوامر من حكومة نتنياهو.. خوفاً من الأصوليين.. خاصة القادمين من الشرق وسيطرتهم على الحكم في ليبيا. إذن يظل الباب مفتوحاً أمام عدة سيناريوهات حول أسباب تداعي الأنظمة العربية وانهيارها.. تتمثل في إما تآكل هذه الأنظمة من الداخل وكراهية الشعوب لما يحدث لها وإيماناً بثورة تونس القادمة من عود ثقاب أشعله البوعزيزي على نفسه وعلى العالم العربي.. أو أن هناك فعلاً تدخلاً أجنبياً.. وبالأحرى أمريكي إسرائيلي لقناعة بضرورة التغيير على أن يبدأ أولاً بالحلفاء في تونس ومصر واليمن وليبيا.. ومن ثم إلى المتمردين من الرؤساء.. أو أن أمريكا وإسرائيل والغرب كله مذهول ومفاجيء بما حدث وأن الثورات جاءت بشكل مباغت لم يكن أبداً في حسابات أجهزتها الاستخباراتية.. وبالتالي يظهر هذا التخبط في التعامل معها.. ومع هذا التخبط في رد الفعل والفعل تظهر صلابة الشعب الرافض للتدخل الأجنبي بحجة إنقاذه «الحالة الليبية» من بطش الحاكم. المعلومات التي تظهر يومياً عن الفساد المالي واستغلال النفوذ والثراء غير المشروع للحكام وذويهم والمقربين والمحسوبين والأصهار والأصدقاء.. تذهل وتشتت العقل.. أرقام خرافية من الأموال المنهوبة من عرق الشعب ذهبت كلها للتخزين في بنوك غربية قامت بتدويرها والاستفادة منها عشرات السنين.. وبعد سقوط النظام يتم تجميد الأموال المودعة إلى صالح الدولة.. وتنزع من ذلك المغتصب لها، لكن ما لا يعلمه الكثير منا أن الأموال التي سترجع إلى الشعب هي أصول المبالغ المودعة بلا فوائد أو عوائد الاستثمار فيها طيلة تلك السنوات هي خسائر الدول العربية من تجميد الأموال.. المدهش أن الدول الغربية وبنوكها توافق على إيداع الرؤساء والشخصيات الاعتبارية العربية لأموالهم رغم أن قوانين الشفافية المعمول بها هناك تلزم البنوك بالكشف عن الحسابات الخاصة.. ولم تعد بنوك سويسرا ملاذاً آمناً للأموال العربية المنهوبة.. إذن هذه البنوك تقبل أموال الزعماء العرب لكنها ترجعها إلى الدول وفق القوانين الجديدة لكن بلا فوائد أو أرباح.. والزعماء والرؤساء أنفسهم إما ماتوا بالسكتة القلبية أو عاشوا معزولين ملفوظين من مجتمعاتهم.. وفي كل الأحوال لا ولن يستمتعوا بما كنزوا. إذن كم خسرت الدول العربية التي شهدت ثورات شعبية.. وما الخسارة الإجمالية للاقتصاد العربي نتيجة ذلك.. بورصات وبنوك وقطاعات استثمار وصناعة وزراعة وخدمات.. وبترول.. وإلى أين تذهب بنا هذه التوترات اقتصادياً.. وهل من عوامل استقرار للمنطقة العربية ونحن معها في ظل هذا الواقع.