التغيير الذي طرأ على النظام الإقليمي وخاصة بعد ذهاب الرئيس المصري عبر ثورة شعبية أجبرته على ترك المنصب، يفتح آفاقاً جديدة ويرسي نظاماً بالتأكيد سيكون مخالفاً ومتقاطعاً مع النظام السابق، حيث كان يحكم حسني مبارك ويتعامل مع محيطه بالصورة التي تضمن له البقاء والخلود أو التوريث.. لكن ذلك أورث الشعب المصري فقراً وبطالة فوق التصور، فضلاً عن انكماش دور مصر العظيم، لأن كل السياسات كانت تصب في تمكين الرئيس سواء على المستوى الخارجي أو الداخلي.. فمصر مبارك لم تقدم الدعم السياسي لدولة شقيقة ولم تسعَ لحل قضية في دولة شقيقة من باب الأخوة وانطلاقاً من كونها الدولة الرائدة التي تحتضن الجامعة العربية، فمصر مبارك لم تكن بحال مصر الأزهر الشريف وتحديداً مع السودان، فهذا الحال الذي أوصلها مبارك إليه كان سبباً في الثورة عليه، حيث إن تراجع دور مصر الإقليمي والعربي كان أحد أهم مسببات الثورة، فقد اهتم مبارك بعلاقاته مع الغرب مهملاً الرابطة الإقليمية التي تمثل حجر الزاوية والعاصم من كل خطر، فذهب وقيد اللحاق به الزعيم الليبي ذو الألقاب الكثيرة والغريبة. لقد سلك العقيد معمر القذافي مسلكاً مخالفاً تماماً تقضيه فلسفته في الحكم، إذ أن نظرياته في كتابه الأخضر تقول السلطة للشعب، فإن كانت كذلك لماذا يقاتل بعنف وبأس غير مبقٍ على شيء بمعاونه أسرته التي لا تخفي رغبتها وتلهفها على بريق السلطة وإن كان الثمن الشعب بأسره، فما الكمال والخلود الذي ينشده العقيد، ألا يكفيه الزمن الطويل الذي قضاه في السلطة فهو الآن يقاتل الشعب من أجل استراداد عرشه السليب، ويفرض نفسه عليهم بقوة السلاح، بل يتهكم عليهم. التكوين النفسي لهذا الرجل غريب، لقد استولى على الحكم في عز صباه وكان وقتها ملازماً في الجيش حرم من الترقية إلى نقيب، وبالنظر إلى تزامن ثورته مع حكم القائد عبد الناصر الذي كان محبوباً ومؤيداً، لقد سعى القذافي في عمر حكمه الباكر إلى زعامة الأمة العربية، غير أن ثقل مصر وشعبها لم يدع له فرصة لمجرد التفكير في ذلك، فلقد تقطعت علاقاته بالمحيط العربي، فهو كان يريد أن يجير رفض الدول العربية لاتفاقية كامب ديفيد من أجل تسويق زعامته للعالم العربي، لكن ذلك لم يتسنَ له، ففكر في إقامة اتحاد المغرب العربي وخاب ظنه في زعامته، هذا التخبط مصدره ثراء ليبيا من النفط والغاز وقلة عدد سكانها، فهذا الفائض الكبير في الدخل تم توظيفه في تمويل أفكار القذافي الغريبة، كان يدعم بسخاء من مال الشعب الليبي الجيش الجمهوري الايرلندي.. وفي خاتمة المطاف دفع تعويضات هائلة لضحايا دعمه، فضلاً عن ضحايا حادثة لوكربي التي كلفت الخزانة الليبية مبالغ خرافية، وفوق ذلك الترف والإنفاق غير الضروري على شؤون لا تخص الشعب في شيء.. فالقذافي باختصار كان يمارس الهلوسة في الحكم، فكان يرى أن الديمقراطية هي ديكتاتورية الأغلبية، والتمثيل تدجيل، والتحزب خيانة.. ولا يدري ما هي المواعين التي تخرج فيها الحكام حسب فكر القذافي ونظرياته، لعله لم يكن يدرك أن الحقائق الواقعية تقضي على الأحلام لكن شخصية القذافي المسكونة بحب الزعامة والعظمة تنازعه دوماً، فلم يستطع الفكاك منها أو كبحها.. فلقد فكر القذافي بعد أن خاب أمله في العالم العربي تماماً، فكر في زعامة أفريقيا، فهو صاحب فكرة الاتحاد الأفريقي على غرار الاتحاد الأوربي، بل كان يريد قيام الولاياتالمتحدة الأفريقية، فهي الأقرب لتنصيبه ملكاً عليها.. وخطاب الأزمة أبان ما يضمره القذافي للأفارقة، القذافي أجج الصراعات في محيط جواره وتدخل في شؤون ذلك الجوار من أجل خلق البلبلة وتمكين أتباعه كما يرى، من أجل حكم الدول المحيطة به ليتحقق له بذلك مبتغاه، فكان دائماً يقف على النقيض، وهذا يؤكد أن له غرضاً خاصاً فهو يعمل ما في وسعه من أجل تعكير الصفاء وخلق الأزمات، لقد تعامل القذافي مع الأنظمة التي حكمت السودان تحديداً.. بطريقة لم يتبعها الأعداء، واحتضن كل المعارضين، بل عمل على تدريبهم وتسليحهم وإيوائهم من أجل زرع عدم الاستقرار، فمواقف القذافي فيها الكثير من الاضطراب وعدم الثبات.. ويفسر أطماعه في ضم دارفور لمحيطه، رعايته لحركات التمرد من أجل أن تعم الفوضى هذا الإقليم حتى لا يتمكن السودان من استغلال ثرواته، لأنه يفكر فقط في أن يكون هو الغني المستقر، فإن زوال نظامه يعني نهاية الآلام لإقليم دارفور، حيث سيفقد التمرد المنطلق والدعم، ولعل ذلك يجبر الحركات على السلام، فالسلاح لا يحل قضية، كما أنه لا يثبت أركان حكم، فهذا هو الزعيم الأممي يذود عن عرشه، ويمكن أن نجزم بسقوط النظرية الثالثة.. والثالثة واقعة.