أدهشتني، بل صدمتني، إفادات الأستاذ محمد الحسن الأمين المحامي والنائب بالمجلس الوطني في الحلقة الثانية من حواره مع «الانتباهة» التي نشرت يوم السبت الماضي. مصدر الدهشة والصدمة هي أنها تصدر من حقوقي ونائب برلماني قديم يعرف أكثر من غيره في فقه القانون والدستور والأعراف بحكم تعليمه وتدريبه وتخصصه، فقد سألته محاورته عن الإخفاقات والمشكلات التي تحتاج إلى حل، فاعترف بأن «هناك مشكلات» وهم يدركونها، مشكلة الغلاء ومشكلة الوضع الاقتصادي العام وجزء منها من آثار الانفصال وجزء منها ناتج عن المشكلة العالمية وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأن الأجهزة الاقتصادية جادة في الشروع للتخفيف على المواطنين، وخلص إلى أن تلك «ظاهرة عالمية»، فاسترسلت الصحافية المحاورة تسأله: إذن الخروج في المظاهرات حقٌ مكفول للمواطن قانوناً، ومع ذلك تدخل تقاطعات السياسة سواء من جانب الحكومة أو المعارضة.. فما قولك؟ وهنا يجيب الأستاذ الأمين بقوله: يكون ذلك «بالقانون والانضباط»، كي لا يحصل في الشارع «انفلات وعدم استقرار أمني»، ويمكن أن تهتف والآخر يهتف هتافاً مضاداً، لكن المسيرة «يُحدد لها مسار وتحدد أهدافها والجهة» ويُسمح لها بالخروج والتعبير عن الرأي، «لكن بالقانون والانضباط»، لتقفز محاورته «آمال الفحل» من ثم إلى السؤال البديهي والمنطقي بحكم الواقع المعاش وهو: المعارضة تشير إلى عدد من المتاريس لتعويق أي طلب «للتظاهر السلمي»؟ لتجيء إجابة الأستاذ الأمين المحامي على النحو التالي: إذا كان هناك محاولة «للانقلاب على النظام الدستوري فهذا يعتبر جريمة»، وإسقاط الأساس القانوني الذي قامت به الدولة والنظام الدستوري جريمة «وفق القانون الجنائي»، أما إذا كانت المسيرات «ضد قرارات اقتصادية وضد شيء مُعين ومحدد فهذه لا بأس بها»، ولكن إذا كانت تريد «تخريب النظام الدستوري القائم فهذه مسيرة غير مشروعة وجريمة»، والسعي لإعلان هذا المسعى أيضاً جريمة، لكن التعبير عن الرأي في قضايا اجتماعية أو اقتصادية يجب أن لا تمانع السلطات في إعطاء الإذن لها. ومن ثم باغتته المحاورة بسؤال أكثر صراحة ومباشرة: لماذا تتباطأ الحكومة في منح تصديق للمسيرات السلمية المناهضة لها «تعني سياسياً» وتمنح التصديق للمسيرات التي تريدها هي (تقصد الحشود والمسيرات السياسية المؤيدة للنظام)؟فكان رد السيد محمد حسن الأمين المحامي هو: في المسيرة أولاً يُدرس الطلب ومن هو «الذي وراء الطلب» وما هو «غرض المسيرة»، إذا كان الهدف الأساس هو إسقاط النظام وأعلن هذا الهدف المتمثل في «تقويض النظام الدستوري» فهذا شخص في «طريقه لارتكاب جريمة»، وقد يعتقد أن الدولة «غير شرعية»، لكن الدولة تعتقد وتلتزم «بأنها شرعية وهي منتخبة من الشعب وقادرة على حماية النظام والقانون والدستور، ومن يسعى لتقويض النظام الدستوري إنما يفعل جريمة يعاقب عليها القانون». الأستاذ محمد الحسن الأمين المحامي، هو نائب برلماني قديم، وكان عضواً بالبرلمان المنتخب قبل «30 يونيو 1989»، كان نائباً معروفاً عن الجبهة القومية الإسلامية، التي حلت ثالثاً في انتخابات 1986 التشريعية وفق النظام الديمقراطي الدستوري الذي تأسس بحكم الدستور الانتقالي في أعقاب انتفاضة أبريل 1985، التي أطاحت بالتظاهرات السلمية نظام حكم مايو والرئيس نميري و«دستوره الدائم» المعمول به في ذلك الحين، واشتهر في ذلك البرلمان الديمقراطي بلقب «نقطة نظام» لكثرة اعتراضاته اللائحية -بحكم تدريبه القانوني- والتي تنصب أغلبها على «نقاط النظام»، فدعونا نختبر ب«هداوة» ما انطوت عليه إجاباته لمحاورة «الانتباهة» حتى نرى «الإزدواجية» والكيل بمكيالين، الذي لا يليق بمن هو في مقامه المعرفي أو السياسي. فالأستاذ الأمين نسى أولاً -أو تناسى- أنه كان عضواً فاعلاً وناشطاً في برلمان منتخب وفق نظام ديمقراطي مفتوح، وهو نظام تأسس في أعقاب انتفاضة شعبية (سلمية) أطاحت نظاماً شمولياً -نظام مايو- وأسست لحياة ديمقراطية أتت به إلى الجمعية التأسيسية نائباً ليشارك في وضع الدستور الدائم، فهل كانت تلك التظاهرات السلمية التي غيرت نظام نميري هي «جريمة» في حق ذلك النظام الذي وصل إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري وقنَّن وجوده فيما بعد عبر استفتاءات رئاسة الجمهورية وانتخابات مجالس الشعب المتوالية عبر عهده الذي استمر لستة عشر عاماً، وسوره بجملة من التشريعات وعلى رأسها الدستور الدائم لجمهورية السودان الذي شارك حزبه في صياغته وتولى خلاله «قادة الجبهة» المسؤوليات التنفيذية وفق «المصالحة الوطنية» قبل أن ينشب الخلاف بينهم وبين الرئيس الأسبق جعفر نميري، لينخرطوا من ثم في مظاهرات مارس-أبريل التي أطاحت النظام، وهل كان ذلك الانخراط يمثل جريمة في نظر السيد الأمين؟! الأستاذ محمد الحسن الأمين -وبحسب إفاداته للانتباهة- يتحدث، وكأن لا علاقة له بالقانون والفقه الدستوري والعلوم السياسية عن ان المظاهرات المسموح بها هي تلك المسيرات التي «تكون ضد قرارات اقتصادية او قضايا اجتماعية وضد شي معين ومحدد فهذه لا بأس بها» -كما قال- اما التظاهر السياسي -مهما كانت سلميته- خصوصاً اذا طالب بتغيير النظام فهو «مسيرة غير مشروعة وجريمة»، وذلك هو ما يدهش ويصدُم في منطق السيد الامين، فما الذي يجيز للناس ان يتظاهروا من اجل المطالب الاقتصادية او الاجتماعية او القضايا المحدودة ولا يجيز لهم حرية التعبير السياسي (السلمي) عن رأيهم في نظام الحكم، حتى لو كان منتخباً، اليس حرية التعبير السياسي مسموحة بحكم الدستور والاعراف الديموقراطية والمواثيق الدولية، وذلك يدخل في صميم النظام الديموقراطي الدستوري، الا تخرج المسيرات والتظاهرات السلمية في الدول الديموقراطية وتطالب بتغيير نظام وصل للحكم بانتخابات «حرة ونزيهة» فيضطر الحزب او الائتلاف الحاكم الى الدعوة لانتخابات مبكرة؟! لا شك ان السيد الامين يعلم ذلك اكثر مني وربما اكثر من كثيرين غيري، لكنه اثر «الانحياز» للنظام السياسي الذي ينتمي اليه عوضاً عن الانحياز «للعدالة» التي يجب ان تسيطر على وجدان وضمير كل حقوقي مثله، ما انساه ان هذا النظام قد وصل الى السلطة ابتداءً عن طريق «الانقلاب العسكري» وليس الارادة الجماهيرية الحرة او التحرك الشعبي السلمي، وهو لا يرى بالتالي ان في «الانقلاب» جريمة انما الجُرم كله يقع على «التظاهر السلمي»، الذي يساوي بينه وبين الانقلاب عندما يصفه بأنه «محاولة للانقلاب على النظام الدستوري»، بل يذهب ابعد من ذلك ليعتبر مجرد «السعي لاعلان هذا المسعى» اي مسعى التغيير والتحول الديموقراطي السلمي «ايضاً جريمة». وبهذا يكون الاستاذ محمد الحسن الامين قد تجاهل ثقافته القانونية وتدريبه المهني وتجربته السياسية عامداً، مع سبق الاصرار على الادلاء بافادات مضللة من وجهة نظر القانون والدستور والحقوق السياسية، خشية ان يرى يوماً في شوارع الخرطوم ومدن السودان حراكاً شعبياً كذلك الذي شهدته البلاد في «ابريل» و«اكتوبر» او ما تشهده البلدان العربية هذه الايام، بالرغم من ان المعارضين الذي يخشاهم يمدون ايد بيضاء للحوار والتفاهم والاصلاح ولا يواجهون الا الصدود والتعنت من قبل النظام.. مالكم كيف تحكمون!