طالعتُ بتعجب واستغراب ذلك البيان الصادر عن «الاتحاد العام للمحامين السودانيين» الذي يتوسط اسمه ميزانان للعدالة والذي كان موضوعه «التدخل الأجنبي في ليبيا». ومصدر التعجب والاستغراب يعود قبل كل شيء لأنه صادر من تنظيم نقابي للمحامين يضم في عضويته - افتراضاً- كل أهل «القضاء الواقف في بلادنا» ويمثلهم بحكم الاختصاص في كل الشؤون المتصلة بقضايا الحقوق، سواء كانت تهم أعضاء الاتحاد، أو تهم الحقوق العامة للمواطنين السودانيين، أو تتعدى الحدود للمساهمة بالرأي أو بالدعم المعنوي لمن يتعرضون للظلم أو القهر من دول الجوار العربي أو الأفريقي أو على مستوى العالم أجمع، وهذه الوجهة الأخيرة «المتعدية للحدود» هي ما «حاول» معالجتها البيان، ولكنه -من أسف- أخفق إخفاقاً بائناً وشائناً في المعالجة و«التبيين».. لماذا؟ قبل الإجابة على السؤال دعونا نستعرض باختصار محتوى بيان السادة المحامين، استناداً إلى النص الوارد فيه، والذي نُشر على صفحة كاملة بصحيفة «الأحداث» - عدد الاثنين 21 مارس- والذي يرتكز محتواه على فكرتين أو «قضيتين»، الأولى: «مساندة ثوار ليبيا» والثانية: «رفض أشكال التدخل كافة». فبالنسبة للأولى يقول بيان اتحاد المحامين الموقر: كنا ولا نزال نساند «دون أدنى تحفظ» ثوار ليبيا وهم يواجهون ذلك «الصلف المجنون» واستبداد القذافي ومحاولاته اختزال التاريخ في شخصه، وليس هناك ما يحملنا «للتعاطف مع القذافي ونظامه» طرفة عين، فقد أذاق شعبه صنوفاً من العذاب وأذاق جيرانه أذىً كثيراً وظلماً فادحاً، وأصبح وجوده «عبئاً على الإنسانية» ولم يعد يشرف أحداً، كلام جميل، وإدانة في منتهى القوة والحزم وبأفصح العبارات. وأكثر من ذلك -ولإجلاء الفكرة الأولى- يؤكد البيان: أن القذافي بدأ هجوماً غير متكافئ سفك فيه دماءً بريئة مستخدماً آلته التي كان ينبغي أن توجه للعدو.لكن عندما نتحرك للفكرة أو القضية الثانية يقول لنا البيان: ورغم شراسة قمع نظام القذافي -الذي حاول يائساً مغازلة الغرب وإسرائيل طمعاً في البقاء في السلطة، فإننا لا يمكن بأي حال أن نساند من قريب ولا من بعيد «أي تدخل أجنبي في شأن بلد إسلامي أو عربي أو أفريقي»، وذلك انطلاقاً من «ثوابت ومواقف مبدئية ضد التدخل الأجنبي، خاصة الغربي منه مهما كانت المبررات» فقد رأينا رأي العين ما فعل التدخل الأجنبي بالعراق، وهي تجربة مؤسفة ومخزية لا نرجو تكرارها في أي بلد عربي آخر.الملاحظة الأولى التي يجب تسجيلها هي أن لغة البيان وروحه ونصه لا ينطوي أي منها على قدر ولو يسير من «الاحترافية» المفترضة في هيئة «نقابية حقوقية» كاتحاد المحامين، بل جاءت لغته وروحه وجاء نصه -على غير ما هو منتظر- «سياسي» بامتياز، ما يشي بغلبة الانتماء السياسي للاتحاد على الانتماء للمهنة التي يمثلها، وهذا ما يمكن مراقبته عبر عدد من الجمل والعبارات المتقاطعة والمتناقضة في ذاتها، وعدم الاكتراث لتقديم أية تكييفات أو مسوغات قانونية في كلا حالتي «المساندة» أو «الرفض» والممانعة لأي من الفكرتين الرئيسيتين اللتين قامت عليهما دفوعات البيان.ففي فكرة المساندة -مثلاً- يقول البيان «كنا ولا نزال نساند دون أدنى تحفظ ثوار ليبيا وهم يواجهون ذلك «الصلف المجنون» واستبداد القذافي ومحاولة اختزال ليبيا في شخصه، ويقر البيان كذلك بأن «القذافي بدأ هجوماً غير متكافئ سفك فيه دماء بريئة»، دون أن يخبرنا -أو هو يصمت عمداً- عن الكيفية التي يمكن بها مواجهة هذا «الصلف المجنون الذي بدأ هجوماً غير متكافئ» وولغ في دماء شعبه بلا «رحمة أو شفقة» على حد تعبير القذافي ليلة الهجوم على بنغازي، ولم يجد من صاغوا البيان غير التعبير عن ما يمكن وصفه ب«الأماني الذاتية» لتبرير وتمرير هذه المساندة «غير المسنودة بأفعال» سوى القول في الفقرة قبل الأخيرة من البيان بأنه: «مهما بلغت شراسة وقمع العقيد القذافي فإن الثوار قادرون على ردعه» مشفوعة في الختام بالتكبير وصالح الدعاء «الله أكبر.. والنصر لثوار ليبيا والموت والهوان للقذافي ونظامه» ما يذكر المرء بخواتيم بيانات القوى الطلابية في الستينات والخمسينات من القرن الماضي.أما عندما ننتقل «للفكرة/القضية» الثانية التي هي محرك البيان وعنوانه «التدخل الأجنبي في ليبيا»، فسيزداد القارئ، قبل المراقب، دهشة وتعجباً واستغراباً لتجلي «اللامهنية» و«عدم المتابعة»، وبالتالي عدم الإلمام بالتفاصيل التي هي من أخص خصائص مهنة المحاماة التي تقوم على التدقيق والتمحيص في الوقائع. ومهما بلغ الخيال بالمرء لا يمكن أن يتصور أن من يتخذ من «العدالة» حرفة له أن يوافق على ترك «مجنون صلف» يمتلك قوة «غير متكافئة» -راكمها عبر أكثر من 40 عاماً من الحكم الباطش ومال النفط الوفير- تركه يمارس جنونه ويُعمل آلته الحربية في رقاب شعبه الأعزل إلا من الإرادة والحق، فالحق الذي لا تسنده القوة هو حق مضيع بلا شك، وإلا لما أذاق العقيد «شعبه صنوفاً من العذاب، وأذاق جيرانه أذىً كثيراً، وظلماً فادحاً وأصبح وجوده عبئاً على الإنسانية»، كما يقول البيان، وهذه الجمل الثلاث الأخيرة: تعذيب شعبه، وتعدى ظلمه الحدود ليطال الجيران، ووجوده الذي أصبح عبئاً على الإنسانية جمعاء، كافية لوحدها من الناحية «الموضوعية» لتبرير تدخل الأسرة الدولية، لإنقاذ الليبيين والجيران والسلم والأمن الدوليين، وتلك وقائع وجرائم قال بها بيان اتحاد المحامين السودانيين ولم نقلها نحن، ولكنه مع ذلك يرفض «التدخل الأجنبي» وهي عبارة في حد ذاتها تفتقر إلى الدقة، فالقرار الدولي رقم (1973) وقبله القرار (1970) لم يصدرا عن دولة «أجنبية» أو مجموعة دول بعينها، بل صدرا بناءاً على نداء «ثوار ليبيا» الذين يتعاطف معهم البيان، وكذلك بناءاً على طلب من جامعة الدول العربية التي علقت عضوية ليبيا قبل أن ترفع الطلب إلى الأممالمتحدة، وبالتالي فإن التوصيف الدقيق للقرار (1973) هو «التدخل الدولي» -وليس الأجنبي- بحظر الطيران «واستخدام كل الوسائل الضرورية لحماية المدنيين» - الذين هم الثوار وأهل ليبيا- لردع «الصلف المجنون، والهجوم غير المتكافئ، والآلة الحربية» للعقيد. وقبل الختام، نقول إن بيان اتحاد المحامين ذهب أيضاً إلى مقارنة مختلة من حيث «الشكل والموضوع» بين واقعتين مختلفتين، التدخل الأمريكي المنفرد الذي أقدمت عليه إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في العراق استناداً إلى ذرائع مكذوبة، متجاهلاً الإرادة الدولية ومواثيق الأممالمتحدة، والتدخل الدولي الحالي بناءً على طلب الثوار الليبيين والجامعة العربية وبقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي وفق «الفصل السابع» والمنوط به حماية الأمن والسلم الدوليين، وشتان بين هذا وذاك. وأخيراً بدا لي الاتحاد عبر بيانه هذا، القائم على ما أسماه ب«الثوابت والمواقف المبدئية ضد التدخل الأجنبي في شأن عربي أو إسلامي أو أفريقي» غير أنه لا يفرق بين التدخل «الأجنبي أو الدولي»، يعتبر العالم العربي والإسلامي والأفريقي خارج خريطة العالم ومنظومة المجتمع الدولي، وأن شأن هذه المناطق يجب أن يكون خارج الشؤون الدولية التي تشرف عليها الأممالمتحدة، وأن الأمن والسلم فيها شأن داخلي إذا فشلت الشعوب في التصدي له، فما علينا إلا صالح الدعاء والتأمين، لكأن السماء «تمطر ذهباً وفضة» أو «أسلحة وذخائر»!!