إن كل موقف من مواقف التأبي والممانعة يحتاج إلى شيئين هما: «الإرادة والقوة»، وليست الإرادة وحدها. صحيح أن المشكلة دائماً تكمن في توفير الإرادة لا القدرة والإمكان على فعل المراد، فتوفر الإرادة لاشك أنه أهم بكثير من توفر القدرة، وذلك لأن الإرادة حينما تتوفر فإن توفير القدرات والإمكانات يصبح في معظم الأحيان مسألة وقت، كما يلاحظ أن الذي يقرر مصير الكثير من الأعمال هو ذلك القصور في الإرادة والمشيئة وليس القصور في القدرة والإمكانية. ولكن أيضاً عند كثير ممن يعظمون قضية من القضايا، لاسيما إذا كانت تلك القضية هي ما يشكل أمراً عظيماً في نفوسهم يلاحظ أنهم يعتقدون خطأ بأنه مجرد أن تلتقي إرادات الجميع على أمر ما، هذا يعني موعد تحقيقه والشروع في إنزاله بالكامل دون مراعاة إلى أن كل مواقف التأبي والممانعة تحتاج إضافة إلى الإرادة كذلك إلى عنصر التمكن والقوة ولا يكفي فقط توفر الإرادة وحدها. والقدرات منها ما هو معنوي مثل الإمكانات الذهنية، ومنها ما هو مادي مثل قدرة البدن والمال، لكن الإرادة كلها لاتكون إلا معنوية.. وهنا أرض خصبة وميدان للمزايدات، ممن لايقف على حقيقة ما ذكرنا من ضرورة لتوفر الإمكانية والقدرة، ولم يعد الأمر موقوفاً على مجرد الإرادة وحدها، وذلك عند إرادة تحقيق ما نريد إنزاله على أرض الواقع، والقدرة التي نعنيها هنا ونقصدها ليست مجرد القدرة على إصدار القرار من جهات عليا فهذا سهل وميسور، ولكن القدرة المطلوبة هنا هي التي لا يترتب عليها من ردود أفعال وتداعيات قد تنعكس ضرراً على القضية التي التفت حولها كل تلك الإرادات. فمن ينادون اليوم فينا -مثلاً- بتطبيق الشريعة الإسلامية «بحذافيرها» كما سمعناهم يطلقون ذلك باللفظ «بحذافيرها» من خلال فضائية إسلامية، يعني أنهم غير مستعدين بأن يتولى فينا الحاكم أمر تطبيق الشريعة شيئاً فشيئاً، وهذا الذي ينادي بذلك يقع تماماً في ما حذرنا منه من مفهوم خاطئ في حالة إرادة إنزال قضية عظيمة من القضايا مثل «قضية الإسلام وأحكامه» وذلك باعتقاده أن مجرد أن الناس كلهم مسلمون ويحبون ذلك حباً جماً فهذا كافٍ في حد ذاته لتلبية تلك الرغبة جملة واحدة ودون مراعاة لأي تدرج أو مصلحة عليا، بل لابد من الأمر كله وبحذافيره. قلتُ لمن كان بجواري ونحن نستمع إلى تلك التهديدات من طلبٍ بقبول الشريعة كاملة وإلا كان الزيغ والضلال قلت له:«في تقديرك أيهما أقرب إلى الإسلام وأكثر تهيئة للشريعة بحذافيرها -إن كان لها حذافير- قوم وشعب الخليفة العادل خامس الخلفاء الراشدين وأول المجددين عمر بن عبد العزيز وقتها، أم أقوام وشعوب رؤساء الدول الإسلامية اليوم قاطبة؟.. قال لي: بالطبع «عمر بن عبد العزيز»، فقلت له: يقول عمر بن عبد العزيز لابنه المتحمس عبد الملك والذي كان يطالبه بتطبيق الشريعة كاملة وبحذافيرها بقوله:«يا أبتي ما يمنعك أن تمضي لما تريد من الحق، والله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك»- فيرد عليه أبوه العالم الفقيه أول المجددين وخامس الخلفاء الراشدين «يا بُني إن قومك شدّوا هذا الأمر عروة عروة وعقدة عقدة، ومتى ما أريد مكابدتهم لانتزاع ما في أيديهم من الحق، لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء، و والله لزوال الدنيا أهون عليَّ من أن يُراق بسببي محجمة من دم، أوَ ما تريد أن لا يأتي علي أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يحيي فيه سنة ويميت فيه بدعة»، ويقول له أيضاً:«وإني لأريد أن أُحيي الأمور فأوخر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه».. ويقول: «ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم شيئاً من الدنيا» أه فإذا كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز المجدد الأول وفي زمانه الذهبي ذاك يراعي شرط «القدرة والتمكن» بتدرجه هذا في التطبيق ولم يكتف فقط بمجرد إرادته هو وإرادة ابنه المتحمس «عبد الملك» والقوم جميعاً الذين كانوا يرغبون في ذلك، وراعى من ضمن ما راعى أن الأمر يحتاج إلى زمن وتدرج وعدة وتربية، طالما أن الناس قد بعدوا كثيراً عن عهد النبوة والرسالة، وكان يخاف من عواقب العمل عند إرادة انتزاع الحق من أيدي الناس لربما فتقوا عليه فتقاً تكثر فيه الدماء وبيَّن أن ذلك أصعب عنده وأشد من فوات كثيرمن تعاليم الدين.. فحفظ الدماء والأمن والاستقرار مقدم على إنزال تلك التعاليم الإسلامية، فقال رحمه الله ورضي عنه «والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق بسببي محجمة من دم». وهذا في حالة الإقدام على التطبيق الخاطئ للإسلام وتعاليمه استناداً فقط على مجرد «الإرادة»، وكل ما تخوف منه عمر بن عبد العزيز هو متوقع اليوم، بل كل دواعيه متوفرة بصورة أشد مما كان عليه الأمر زمن عمر بن عبد العزيز، مما يقضي أن نتأسى بكل ما ذكره ذلك الخليفة العادل ونتحسب لكل ما تحسب له هو مما يقضي ويستوجب فقهاً عميقاً ودقيقاً إذا ما أراد الناس إنزال أي حكم من الأحكام، وغني عن القول بأن تلك الأحكام الإسلامية هي قيم عليا والقيم لاتقبل الفرض ولا الإملاء وإنما الإقناع. أقول ذلك لأن البعض الآن يستغرب إذا ما طلب منه التأني والتريث في إنزال ذلك قائلاً: كيف نجامل في ذلك إنه أمر الله ولاشورى في ذلك ولا ينبغي أن يصيبنا حرج في ذلك، وربما تلا علينا قوله تعالى:« وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» وقوله تعالى: «فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً» قلنا لهم: هذا هو المطلوب ولكن الواقع شئ والمطلوب شئ آخر. وكل تلك الأدلة التي سقناها من آيات موجودة أيام عمر بن عبد العزيز وأيام شيخ الإسلام ابن تيمية، فلننظر كيف كان فهمهم لها في الإنزال والتطبيق ونحن نقول دائماً لابد من أن يفهم القرآن والسنة كما فهم السلف الصالح. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاواه «ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرِّط فيه من الحقوق مع التمكن» أه، والتمكن هنا ليس المراد منه مجرد «الإرادة» وإنما القوة تعني عدم الخوف من ردود فعل يعاكسه قد تضر بكيان الإسلام أو ما هو أعظم من ذالك الحق المراد الذي تركه السلطان غير مفرط فيه وإنما لاعتبارات أخرى معقولة. ثم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في نفس ذلك السياق الذي نتناوله:«ولم يكن يوسف عليه السلام يمكنه أن يفعل كل ما يريد وما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له ولكنه فعل الممكن » أه، مما يؤكد أننا مطالبون بالعمل وفق «فقه الممكن». ويقول رحمه الله مقرراً مبدأ التدرج وإنزال الدين شريعة كان أو غيره شيئاً فشيئاً بقوله «فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ولم تأت الشريعة جملة، وكما يقال إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع»، ثم يقول رحمه الله «فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لايمكن حين دخوله أن يُبلغ جميع شرائعه ويؤمر بها كلها وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لايمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لايطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه، ولم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء إلى أن يقول: «ولايكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فانه نافع» أه ح 20/ص «40»ولذلك لابد من معرفة ذلك الفقه ومنهج السلف في التعامل مع هذه الآيات الآمرة بتحكيم الإسلام وتطبيق شرع الله ومراعاة ماراعاه الصالحون من العلماء ممن سبقنا. كل ذلك ليس هروباً كما يظن كثير من الذين يزايدون علينا، وعلى غيرنا، وإنما خوفاً على ذلك الإسلام. ولكنهم وللأسف الشديد: «يحبونه ولا يخافون عليه» والله ولي التوفيق.