برزت مؤخراً اختلافات كبيرة بين المجموعات الإسلامية في السودان حول كثير من الأمور السياسية المرتبطة بالفقه، والحال كذلك كان بالنسبة لفتاوي عديدة صدرت في أمور سياسية من هيئة علماء السودان ووجدت اعتراضات وانتقادات من علماء ومفكرين ومتفقهين، كذلك ظل موضوع تطبيق الشريعة في السودان مثار جدل حتى بعدما انفصل الجنوب، لا سيما بين بعض المجموعات أو الأحزاب الإسلامية ومن يتبنون خيارات فئات أخرى لا تعتنق الإسلام - الحكومة من جهتها، ممثلة في حزب المؤتمر الوطني، حاولت استباق ترتيبات الشكل الجديد للحكم في الشمال، بتأكيدها على تطبيق الشريعة، فيما تصدي آخرون لهذه التأكيدات طالما هنالك مناطق أخرى وعرقيات وقبائل لا تلتزم بها، ومطلبيات أخرى وقيم غائبة في الجانب الآخر. هذا الحوار الساخن حول الشريعة قاد إلى إقالة الأمين العام لمستشارية الأمن القومي التي نشطت مؤخراً في مسألة الترتيب للحوار بين الحكومة وبعض القوى السياسية والمراكز ومنظمات المجتمع المدني، وعلى ضوء هذا الواقع وما تشهده الساحة من تجاذبات حول الشريعة، كيف تبدو صورة المشهد السياسي القادم. «الأهرام اليوم» التقت رئيس حزب الوسط الإسلامي؛ د. يوسف الكودة. في حوار حول موضوع الشريعة، باعتبارات كثيرة، منها نشاطه في مجال الفقه والفكر الإسلامي وقيادته لتيار وسطي كثيراً ما أدخله في نقاش وخلاف مع هيئة علماء السودان، رغم تمثيله فيها كعضو بجانب مجمع الفقه الإسلامي، حاولنا خلال الحوار الغوص في دهاليز التباينات الفكرية والفقهية.. { ما تقييمكم لمستوى تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان؟ أولاً ينبغي أن نفصل بين القوانين الإسلامية التي للأسف تأخذ مسمى شريعة، وبين الإسلام ككل، الإسلام ككل الناس يحبونه، لكن هناك كثير من القيم غير متوفرة. { مثل ماذا؟ مثل قيمة الحرية والعدل والمساواة، هذه القيم نفتقدها عند حكامنا المسلمين، لهذا السبب الشريعة لم تكن مطبقة بالقدر الكامل والمطلوب أو هناك جزء كبير منها غير متوفر، هذا في ما يخص الشريعة بمعنى العدل والحريات وحقوق الإنسان. { على الأقل هناك تمسك بها أليس كذلك؟ للأسف الشديد أهل الإسلام والدعاة لا يتطرقون إلا إلى قانون العقوبات، الذي يظهر الإسلام في مظهر سيئ. { كيف؟ لا ينبغي أن نختزل كل الإسلام في ما يسمى بقانون العقوبات، وفهذه بدعة كبرى، أن نطلق على قانون العقوبات الشريعة الإسلامية. { ما دور القوانين في الشريعة إذن؟ القوانين لم توضع لتصنع مجتمعات وإنما لتحمي القيم والمجتمعات التي بناها الناس، فلا يمكن أن تأتي بقوانين لمجتمع غير مبني وقيم غير موجودة فكيف يبدأ إنسان بصناعة «زريبة» وهو لا يملك (القطيع)، فعندما نصنع الإسلام نفكر في حمايته بالقوانين. { ما وضعية القوانين في الشريعة؟ القوانين جاءت لتطارد القلة المتفلتة في المجتمعات، وهي ما طاردت الكثرة، ليكون كل المجتمع أصحاب أيدٍ مقطوعة، ستصبح فاشلة لأنها ما جاءت لذلك. { ما الحل؟ لا بد من رأي عام في كل قضايا الإسلام حتى الشريعة، كيف نطبق الشريعة ونأمر الناس بأن يحبوها إذا لم نكوّّن رأياً عاماً، الإسلام يُبنى بالدعوة والثقافة، لا أن نحمل سياطنا على النساء الكاسيات العاريات وأصحاب الخمور والمنحرفين دون أن يعرف المنحرف لماذا يجلد أو يحد. { هل هناك ما يؤكد ذلك؟ سيدنا عمر قال: لا حدّ إلا على من عُلم، هذا الكلام كذلك نسمعه من كبار العلماء مثل القرضاوي، والتعاليم الإسلامية لا تقبل الإملاء والفرض، لذلك لا بد من الإقناع. { هناك خلاف في مسألة تدرج الشريعة وربما يدور الآن بين المختصين؟ ورد في البخاري ما يدل على التدرج أن السيدة عائشة ذكرت للبخاري أن أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل حتى إذا ما ثاب الناس نزل الحلال والحرام ولو كان أول ما نزل منه لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، أو لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، هذا يؤخذ منه أن لابد من التدرج. الإسلام لا ينزل جملة واحدة ومن الحكمة التي تقال: «إذا أردت أن تطاع فامر بما يستطاع». { على ماذا تستند في ما تقول؟ عمر بن عبدالعزيز الخليفة العادل وأول المجددين، عندما طالبه ابنه المتحمس مثل كثير من المتحمسين الآن بأن يطبق الشريعة كاملة قائلاً: يا أبي ما يمنعك أن تمضي بما تريد من العدل والله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. { ماذا قال له الأب؟ قال له: يا بني إن قومك شدوا هذا الأمر عروة عروة وعقدة عقدة فمتى ما أريد مكابدتهم لانتزاع ما في أيديهم من الحق لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجم من دم. { ما علاقة الشريعة بالحريات والديمقراطية والأمن الاستقرار والحريات والأمن مقدم على إنزال الأحكام الشرعية التي قد يكون لها ردود أفعال سيئة جداً، كما قال عمر بن عبدالعزيز، لا فائدة من شريعة وأحكام إسلامية تسيل وراءها الدماء، الإسلام جاء ليحفظ الدماء، وهذه من الأمور التي تغيب عن الأحزاب والجماعات الإسلامية، لذلك نجدهم يتخبطون ويختلفون ويتفرقون عند كل منعطف. { يدور هذه الأيام جدل كثيف حول مسألة الشريعة، أحياناً حول تطبيقها وفي أحايين أخرى حول مواقف وآراء.. برأيك كيف يمكن حسمه؟ هناك الدستور الحاكم والجهات المشرعة لهذه القوانين، وفي تقديري الحكم والفيصل بين الناس هو البرلمان. { ربما يقول آخرون إن حكم الله لا يعرض على الشورى؟ صحيح، نحن مع الذين يقولون بأن حكم الله وما قاله الشرع لا يجوز أن يعرض للشورى، نحن لا نعرض الشريعة للشورى والبرلمان لنقول هل هي باطلة أو غير ذلك. { إذن ماذا يُعرض على البرلمان؟ نعرض النقاش حول، هل إنزال القوانين الآن مناسب أم لا. { ما رأيك أنت؟ أنا دائماً أفرق بين الإرادة والقوة، والتوكل مجرد الإرادة لا يكفي، لا بد من وجود قوة وتمكن مع الجهة المريدة، حتى لا تكون هناك ردة فعل عكسية تضر بما نحبه نحن، أنا أقول يحبونها لكن لا يخافون عليها. { هل حكم البرلمان ملزم للجميع بالنسبة للشرعية في إطار العلاقة بين الشريعة والديمقراطية؟ إذا جاء البرلمان والانتخابات بشخص برنامجه تطبيق الشريعة، أعتقد عندئذ من العدل أن نسمح له بأن يحكم بالشريعة. { وإذا جاء بشخص غير مسلم؟ إذا جاء بشخص غير مسلم علينا أن نلتزم بذلك، طالما أننا احتكمنا إلى الديمقراطية والانتخابات، ويصبح من العدل أن نلتزم بما أفضت إليه. { هل هناك مسوغات شرعية حول هذا الأمر؟ ليس هناك حديث يقول بأنه يجوز لغير المسلم أن يحكم المسلمين، لكن وفقاً للمنطق والعدل الذي يطالب به الإسلام أن يلتزم من احتكم وارتضى الديمقراطية والبرلمان حكماً بنتيجته. { انشغلت الساحة مؤخراً بموضوع إقالة اللواء حسب الله عمر؛ الأمين العام لمستشارية الأمن القومي، بسبب حديثه عن «الشريعة».. «يمكن أن تذهب إذا أجمع الناس».. فما تعليقكم؟ صراحة كنت أود أن أسأل هؤلاء دون أن ألزمهم بإجابة حسب الله التي لم تعجبهم، أقول لهم: ضعوا أنفسكم مكان حسب الله، وتعالوا لنا بإجابة نموذجية، فماذا تقولون إذا قال لكم أحد الناس في مؤتمر صحفي أو إذاعي: ما هو الخيار إذا رفض كل الشعب الشريعة؟ كيف ستردون؟ هل الإجابة عندكم كما يقول العامة: (كراعهم فوق رقبتهم يطبقوا الشريعة؟)، وهل هذه هي الإجابة الصحيحة؟ وإذا لم تكن ما هي الإجابة الصحيحة؟ إذن الإجابة الصحيحة هي إجابة حسب الله حتى إذا لم يوفق في التعبير أو لم يكن دقيقاً. { تقصد أن الشريعة لا تطبق على من يرفضونها؟ نحن نقول لا يمكن أن نطبق الشريعة على ناس لا يريدونها، هم عليهم تحمل مسؤولية رفضهم، وبالنسبة لعبارة حسب الله، فنحن إذا لم نفسر عبارته تفسيراً حسناً يمكن أن نقول: فلتجمد أو توقف، وندخل معهم في حوار ونقاش لنبلغهم دين الله ليؤمنوا به أولاً ثم نطبقه. { في أي سياق قرأت احتجاج الناس على إجابة حسب الله؟ أعتقد أن الناس رفضوا إجابة حسب الله، لكن لم تكن لديهم إجابة مقنعة، وإذا كانوا فقهاء لاستحضروا كلام الإمام السُبكي. { ماذا قال؟ يقول ما في معناه: «لا يجوز أن يحمل كلام الرجل، إذا كان من أهل الإيمان والاستقامة وألفاظ كتابته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، فينبغي التأويل الصالح وحسن الظن الواجب به»، فلا يجوز أن نجعل منه مناحة ونستغله استغلالاً سياسياً. { إقدام الحكومة على خطوة إقالة حسب الله ربما اتخذ لصالح جهات ما؟ الحكومة أحياناً تخلط السياسة والمصالح بالدين، عندما يكثر عليها الضغط من المجتمع الدولي تريد أن تهدده بشيء من التطرف والإرهاب الذي تمارسه بعض المجموعات دون التفكير في عواقبه، وربما انقلب السحر على الساحر، وهذا يتنافى كذلك مع الواجب الديني الذي يتطلب توجيه الأمة توجيهاً صحيحاً. { على ذكر الجماعات المتطرفة هناك من يظن أن إقالة حسب الله اتخذت لترضية هذه الجماعات تحديداً، فما قولك؟ أنا لا أهتم بجماعة أو مسمى جماعة، بقدر ما أهتم بالأفكار والمفاهيم التي يحملونها، ليس لدى إشكال في وجود الجماعات، أو نشوء أفكار بلا سقف، من العدل أن نفسح لهم المجال إذا توفرت الشروط. { إذن ما تقييمك للمفاهيم التي يحملونها؟ أعتقد أن هناك فقهاً غائباً لدى السياسيين والمفكرين الإسلاميين، إذا لم ينزل على أرض الواقع فستصبح عند كل منعطف هناك خسائر في المسيرة وتظهر الانقسامات والتفرقة. { فيمَ تتمثل إفرازات هذا الفقه الغائب؟ في عدم إدراك الموقف الصحيح من المخالف، نحن لا ينبغي أن نقدم انتماء الحزب على انتماء الإسلام والوطن، إذا أدركنا هذا الأمر يمكننا إدارة الحوار بطريقة راقية. { هل يغيب هذا الفقه عن الجماعات عمداً أم جهلاً؟ هذا الفقه يغيب عنها لأنها لا تهتدي بما سبق من الصالحين الأئمة الأربعة، ونحن هنا فقط ننقل ما ذكروه في الدين ولا ننقل كيفية التعامل مع بعضهم البعض. { ماذا ذُكر بشأنهم؟ حصلت خلافات كثيرة في الأحكام والرؤى بين الإمام أحمد بن حنبل والشافعي لكنها لم تفسد للود قضية. { ما دليلك؟ بحسب ما روي، أنه عندما توفي الإمام الشافعي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل وهو يبكي بكاءً مراً حتى يسأله ابنه عبدالله: يا أبتي أي رجل كان الشافعي حتى تبكيه هذا البكاء، يقول له أباه: «إن الشافعي كان كالشمس للدنيا، والعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض». { ثم ماذا؟ ويقول أحمد بن حنبل: «والله ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه إلا عندما جالست الشافعي»، ويقول له الشافعي: «أنت أعلم مني في الحديث، فما صح عندك أخبرنا به لنعمل بمقتضاه»، هذا يدل على أن الذين اختلفوا في أمور كثيرة، لم تفسد ودهم كما تفسده الآن بيننا. { إذا كان الخلاف مبنياً على الاجتهاد فهل يجوز لأحد فرض اجتهاداته على الآخرين؟ لا يجوز لعالم أو داعية أو حاكم أن يفرض ترجيحاته الفقهية على الناس، لا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر في المختلف فيه، وإنما لا بد من الحوار والنقاش طالما أن الخلاف مبني على الاجتهاد، السياسة ميدان واسع للتقدير فلا يجوز في المسائل التقديرية حمل الآخرين على مذاهبهم وترجيحاتهم الفقهية. { هناك اختلافات قديمة ما زالت محل نقاش مثلما الحال بالنسبة لحكم الغناء والآلات الموسيقية. هناك عدد كبير من العلماء يحرمون الغناء وهذا رأي نقدره ونحترمه، لكن هناك رأي آخر مسكوت عنه، لا ندري لماذا. { عن ماذا يتحدث؟ يبين أن الصحابة منهم من استمع إلى الآلات الموسيقية كالعود، ومنهم من استمع إلى جوارٍ يغنين. { مثل مَن؟ عمر بن عبدالعزيز كان يستمع إلى الغناء لم يتركه إلا بعد ما انشغل بالخلافة، فعندما نقول الغناء فُسق ومن يمارسونه فُساق، فهذا الحديث يكون فيه جرأة لأنه ينسحب على صحابة وتابعين، وأنا أقول هناك قضايا تقبل النقاش، وبالنسبة للموسيقى هناك رأي معتبر، ولا أقول يلغى الرأي الأول، لكن يجب أن يأخذ مكانه. { ما يثار حول الغناء ينطبق على التصوف؟ نعم بعض الناس ينكر التصوف كلية، والبعض الآخر يريد أن نؤمن ونعتقد حتى في ما يفعله العوام من المتصوفة. { ما الفهم الصحيح لهذا الأمر، حسب رأيك؟ التصوف إذا كان بمعنى الزهد والورع والتقوى فهو جائز ومباح وتحدث عنه العلماء من قبل، فابن تيمية عندما يتحدث عن الصوفية يقول: فلان قدّس الله سره. { وما حكم الفهم الآخر؟ إذا كان بمعنى الدجل والشعوذة فهو ممنوع، هذا الأمر كان سبباً في تفرقة المسلمين.