مازال كل منا يحتفظ ببعض الرسائل القديمة .. حين كان الناس يعتمدون على ( البريد المكتوب ) وليس الالكتروني .. ومازالت تلك الرسائل تحمل خطوط من كانوا حولنا .. قريبين وبعيدين .. ف ( البوسطجي ) الذي ربما فقد بعض بريقه بعد انتشار الموبايلات والانترنت ظل يقرب المسافات ويختزل الجغرافيا .. ويأتي احيانا كما في العديد من الدول بنفسه حاملا خطابات مليئة بالاخبار والاسراروالمفاجأت بحلوها ومرها .. المفرح منها والمحزن !! ومن الاشخاص الذين استقروا في ذاكرتي رغم مرور سنوات طويلة البوسطجي المصري ( عم محمد ).. فقد كان محل اهتمامنا جميعا نحن طلاب جامعة القاهرة في مصر العزيزة .. هو متوسط العمر .. قصير القامة .. غامض الوجه .. دون ان يفقده ذلك براءته .. يحمل حقيبة دائما في يده .. وبداخلها خطابات الطلاب الوافدين القادمة من ذويهم في عواصم الدنيا المختلفة .. لكن ( عم محمد ) كما كنا نسميه ونطلق عليه لم يكن كاي ( بوسطجي ) اخر و يمثل شخصه اهمية كبرى لكل الطلاب السودانين الدارسين في كليتنا انذاك .. لأن ( عم محمد ) هو الذي كان يأتي لهم بالخطابات المسجلة التي تحمل التحويلات والشيكات المالية من اسرهم .. !! 1. المشهد عجيب جدا .. في نهاية كل شهر اوبدايته او وفقا لموعد تحويل المصروفات لكل طالب يبدأ كل منا في التردد عليه .. يقترب منه متوجسا .. يقدم ساقا ويؤخر اخرى .. ببطء شديديخطو نحوه اكثر فأكثر ليتبين وجهه الدائري .. ويقول له : ( ازيك ياعم محمد .. منتظرا اجابته التي كانت تأتي سريعة .. اما يبتسم ويقول : ( اهلا ليك جواب مسجل ) او يظل على غموضه مكتفيا برد التحية وانتظار السؤال المعتاد : عندي جواب ياعم محمد .. ليقول : ( لا والله مالكش !!) . كانت عبارة : ( عندك جواب مسجل ) من فم ( عم محمد ) تجعلنا نكاد نطير من الفرح .. فالخطاب المسجل هو الذي يكون بداخله ( شيك التحويل البنكي ) .. اما حين يقول .. (عندك جواب ) فقط فهذا كان يعني نصف الفرحة وليس كلها .. لذلك من يصله ( الخطاب المسجل ) لابد ان يعطي عم محمد ( البقشيش ) وان يعد الطلاب الذين حوله في تلك اللحظة ب ( عزومة ) معتبرة في كافتيريا الكلية بعد صرف الشيك من البنك .. وهم يفعلون ذلك ويعرفون انهم يقدمون السبت ليجدوا الاحد .. فالخطابات المسجلة تتوالى في الوصول .. وفي كل مرة يتم الاحتفاء الخاص جدا بمن وصلته الحوالة .. ! لم اكن من الذين يدمنون عادة ملاحقة (عم محمد ) .. ربما خشية سماع كلمة ( مالكش او ماعندكش ) منه .. او انتظارا لحدوث المفاجأة السارة في وقت انشغل فيه عنها وازدحم بهموم الغربة الكثيرة .. كنت افضل ان ينقل لي احد الاصدقاء ممن يترددون عليه خبر وصول الخطاب .. لكني كنت حريصا على الذهاب اليه لتسليمه ( البقشيش ) يدا بيد .. فمن لا يرضى عنه ( عم محمد ) يعانده الحظ كثيرا وقد تخاصمه الخطابات المسجلة الى وقت طويل !! ماوراء اللقطة : .. الى هذا الحد ارتسمت صورة هذا ( البوسطجي ) في مخيلة معظم الذين تزاملنا معهم ايام الجامعة .. ومازلنا حين نلتقي و نجتر تلك السنوات نتذكره ونحاول معرفة اخباره .. وحين يزور بعضنا القاهرة يذهب خصيصا الى الكلية ليلتقي به دون ان يسأله بالطبع عن مااذاكان لديه خطاب مسجل ام لا .. وان كنت شخصيا وبعد عام كامل من التخرج سافرت الى مصر لاستخراج بعض الاوراق من الكلية ففاجأني ( العم محمد ) بأن لي خطاب مازال يحتفظ به حتى الان وانه كان دائما يسأل عني ليسلمه لي .. كم انت عجيب ياعم محمد !