هذا مقال جديد لابن أخي الأستاذ خباب النعمان يتناول مسألة جديدة هي علاقة «المخابرات والأخلاق»، استناداً إلى كتاب رجل المخابرات الأمريكية السابق أنجيلو كودفيلا «المخابرات و فن الحكم»، الذي يروي فيه حالات الفشل التي لازمت عمل المخابرات الأمريكيةوالغربية في الرصد والتحليل والتنبؤ بالأحداث الكبرى التي شهدها العالم، بما في ذلك موجة الثورات التي تنتظم المنطقة العربية في الوقت الراهن.. إنه مقال يثير العديد من التساؤلات حول جدوى الاستثمارات والضجة في عمل المخابرات، ويستحق القراءة. ü التعميمُ أسلوب خاطئ بما فيه مقولتي هذه «لعلها منسوبة لبرنادشو».. والعنوان أعلاه تقييم تجريدي لوقائع تجريبية حافلة بالتفاصيل المذهلة التي قد تفلت من السياق التعميمي استثناءً دون أن تقدح في القاعدة بكلياتها، وهي أن النظرية الأمنية تعاني خللاً بنيوياً لازماً، وتفتقر بطبيعتها للشمول والإحاطة.. و ما يثبت ذلك ليس هو فقط الانتباه المبكر لمخاطر الاسترسال مع طلاقة الروح الأمنية الجانحة للهيمنة والاستعلاء.. وقد نفذ إلى هذا المعنى قديماً نبي الله سليمان عليه السلام في قصته مع الهدهد، وأهدى للإنسانية نمطاً راقياً في قصر مهام الاستطلاع وتحليل المعلومات للأجهزة الأمنية، وأحال مهام الملاحقة والتعقب ومن ثم التحقيق والمحاسبة لجهات مهنية مختصة فلما جاءه «الهدهد» من سبأ بما أسماه «نبأ يقين»، لم يركن إلى التسليم بصحة ما ورده وترقية هدهده إلى تراتبية أعلى، كما تفعل كثير من الأنظمة، بل تحرى واستوثق من صحة المعلومات بحيلة إجرائية صارمة، فكان أن أمر الهدهد بحمل خطاب «دعوة» لها ولقومها.. لكنه حين أراد أن يحضر «عرش بلقيس» أحال الأمر للذي عنده علمٌ من الكتاب لما له من صفات مائزة تتناسب وهول المهمة، وفي هذا إشارة ضمنية لما يمكن أن يعتبر مطلوبات يجب توافرها في رجال الأمن، حيث يشترط فيهم المهارة المهنية، فقط بخلاف رجال السياسة الذين يشترط فيهم الإلمام بالنواحي الفكرية.. وكتاب ضخم يرسم صيرورة الفشل الأمني في صورته الاستخبارية بعنوان «المخابرات وفن الحكم»، يشرح مؤلفه أنجيلو كودفيلا من واقع عمله في «السي آي أيه» لأربعين عاماً ونيف، كيف أن المخابرات العالمية ظلت منذ نشوئها وحتى ارتقائها نحو الهاوية، تتقدم خطوة للأمام على صعيد كسب السلطان وخطوتان للوراء على صعيد فقدان الأخلاق، وكيف أن الفشل ولا شيء سواه هو ما ظل حليفها الدائم في عالم صار يحكمه المبدأ السوفسطائي القديم «لا ثابت إلا المتغير» بيد أن مهمة التخابر في عوالم تمور بسيول المعلومات الدافقة لتضع جدوى عمل الأجهزة المخابراتية ومستقبلها رهن التمحيص، وما تسريبات «ويكيليكس» الأخيرة التي أعادت رسم حدود سلطة المعرفة ومعرفة حدود السلطة إلا إيذاناً بتبلور عالم صار يتنكر للنظم المخابراتية البالية ويتمرد عليها، فينشر ما اتسخ من ثيابها على حبال الميديا الممتدة عبر الأثير.. لا بل ويلقي بظلال الريبة على ما مضى، فيدعو إلى إعادة النظر كرَّتين في كسب التجربة برمتها، رغم ما يكتنفها من سرية وتكتم، تارة بحجة طبيعة الملفات وحساسية المهام وتارة أخرى بحجة أن للتخابر منطقه الخاص الذي يستعصي إدراك مقاصده لغير أهله تماماً كما يقول أحد المتصوفة: لكنما حرفي ترمّز ساعة الإفصاح.. جاء، كما يُقال القول خاص .. في العلم هذا القول «خاص..» .. فهل دنت ساعة الإفصاح مع استشراء الروح الثورية التي أسقطت الدلالات الرمزية على مستوى الكلام وأقامت الرموز الدلالية على مستوى الواقع .. إذن فماذا يقول واقع هذه الأجهزة المتخمة بالفشل؟! أولى المفاجآت الصاعقة هي أن أجهزة المخابرات الغربية مجتمعة لم يخطر على بالها أن الشعب الإيراني سوف يثور على شاهه الشائه، ربما بسبب جهلهم بدور الدين في إذكاء روح الثورة، وقد أخطأت التقدير مرة ثانية حين ظنت أن الشاه سوف يأمر جنوده بإطلاق النار على الثوار مما سيقوِّض فرص انتصارهم ويجهض أحلامهم في مهدها.. صاعقة أخرى لا تقل فداحة هي أن المخابرات الأمريكية، ورغم ما تملكه من معلومات هائلة عن الأحداث الثورية في الكتلة الشيوعية، إلا أنها لم تكن تعلم أن جدار برلين سينهار في يوم 9/11/1989م مسدلاً الستار على التراجديا العبثية على مسارح الحرب الباردة.. وقديماً تعامل كل من تشرشل وديغول مع الولاياتالمتحدة بقدر عالٍ من الوعي باعتبارها قوة اقتصادية ضاربة، غير أن هتلر استخف بها وأعلن الحرب عليها بغير مبرر، مع أنه كان يملك نفس المعلومات فما استبان له الأمر إلا ضحى الهزيمة. وحرب الخليج خير مثال لفشل المخابرات الأمريكية، التي لطالما وصف عملها بالممتاز على مستوى التاكتيك على المستوى الإستراتيجي، فرغم أن أعين الأقمار الصناعية ظلت ترصد تحركات الجيش العراقي وحشوده الهائلة على حدود الكويت، إلا أن المحللين الاستخباراتيين باستثناء واحد - كما يقول انجيلو - قد أخطأوا وجهتهم التحليلية في أن صدام ما أراد إلا غزو الكويت وقد كان. ومايكل شوير مسؤول وحدة ابن لادن بالسي آي أيه يفتضح المساعي المخابراتية الحثيثة للولايات المتحدة وحلفائها في ما أسمته بالحرب على الإرهاب ويمنحهم صفراً كبيراً، هذا رغم اغتيالهم لأبي يحي وأبي الليث الليبيين، واعتقالهم لخالد شيخ محمد العقل المدبر لهجمات منتهاتن ورمزي بن الشيبة منسق الهجمات، وإفشال عمليات إرهابية مفترضة قبل وقوعها وأثناءها. إلا أن شوير الحاذق ينفذ إلى الجوهر غير مأخوذ بالعرض، حين يرى أن القاعدة بوصفها حالة مقاومة وليس تنظيماً منبتاً بكهوف أفغانستان استطاعت إيذاء الذات الأمريكية وجرها إلى ما يناقض قيمها المفعمة بالزهو، فصارت أمريكا شارلس بيرس و وليم جيمس هي المقابل الموضوعي للانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، ولو بوصفه حيواناً، هنا تكفي الإشارة لغوانتناموا فإنها تختزل كل دلالة ومغزى في كيف يغدو الشيء ونقيضه نسقاً منطقياً في عرف الثقافة الأمريكيةالجديدة.. وجهة أخرى تقرأ الفشل بمنظور مختلف وترده إلى عدم تكافؤ الكفآءات، فأمريكا في حقبة الحرب الباردة كانت تصارع عدواً من السهل أن تراه ومن الصعب أن تحسم معه المعركة هو الاتحاد السوفيتي.. لكنها في حقبة الحرب على الإرهاب فإنها تواجه عدواً من الصعب أن تراه ومن السهل أن تحسم معه المعركة، أو كما قال فريدمان.. وقد اتصلت مسيرة الفشل المخابراتي العالمي حتى راهننا الثوري الذي نعيش أيامه المباركات، لدرجة أن المخابرات الأمريكية عندما أعلنت اليوم المحدد لتنحي مبارك عن سدة الحكم جاءت مشيئة الله مخالفة لها ولم تعطها حتى شرف الإلمام، دع عنك شرف المبادرة والفعل.. ولعلنا في غنى عن نمذجة فشل المخابرات العربية إذ يكفيها أنها أيقظت روح الثورة في شعوب عرفت مؤخراً أن هجاء مطر صار يغيظها أكثر من ظلم بشار وأنتم تدرون من أعني !! خباب النعمان