هذا مقال تحليلي بقلم الأستاذ خباب محمد أحمد النعمان حول التطورات الأخيرة التي شهدتها صفوف حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وما طفح من خلافات حول الحوار مع القوى السياسية بين الحزب من جهة، ومستشارية الأمن القومي التابعة لرئاسة الجمهورية من جهة، والتى حملتها تصريحات المسؤول التنظيمي للحزب د. نافع علي نافع، ومستشار الأمن الرئاسي صلاح عبد الله قوش ، فالى نص المقال: الصراع بين نافع وقوش ليس صراعاً بين ذوات مختلفة كما يبدو لذوي النظر الإطلالي، بقدر ما هو صراع بين ذات واحدة.. ذات أُريد لها أن تنتقل من أقصى تفاصيل النقيض الأكاديمي إلى النقيض الأمني، إرتهاناً لموجبات قرار تنظيمي لم يكن يراعي الأهلية النفسية، والإستعداد الشخصي للمُكلّف بأي عمل، سواء في إطار النظام أو في إطار التنظيم.. وما بين نافع وقوش خيوط من الإنسجام والإنفصام، بعضها مرئي وأكثرها مستتر فكلاهما يمتاز بالحدة.. حدة الذكاء وحدة الطبع.. فإذا أُثر عن نافع مفردات موغلة في الإقذاع والنيل من الخصوم على شاكلة: (لحس الكوع.. وجحر الضب.. وخميرة العكننة.. وعواجيز السياسة..) فقد أُثر عن قوش مفردات أشد إقذاعاً وإيذاءً كتلك التي وصم بها الحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي، إبان حملته الإنتخابية مُضاف إليها تصريحاته النارية المضادة لهجمات باقان، حين اتهم الحكومة بدعم أطور.. وقد سبق أن توعد بجز رؤوس مؤيدي المحكمة الجنائية الدولية في مهرجان نُظم بمناسبة ترقيته إلى رتبة الفريق أول.. وقد ذكر في ذات المناسبة أن الحركة الإسلامية التي بدت عليها سيما النعومة والتحضر، يمكنها أن ترجع إلى عهد المُخاشنة والتطرف إذا لزم الأمر وتهيأ الظرف، وصلاح المُكنى بقوش نسبة إلى عالم رياضيات اتسم بالعبقرية والنبوغ .. أظهر أيام دراسته للهندسة في جامعة الخرطوم تفرداً أكاديمياً مرموقاً، وقد مال إلى تأسيس المكاتب الفنية الخاصة بعمل المعلومات والتخابر، وعُهد عنه براعة في ذلك، لكنه لطالما وصف بالبراجماتية، التي تلامس سقوف الميكافيلية ولا ترى غضاضة في تسويغ الوسائل أيّاً كان شرط إتساقها مع الغايات المرجوة، ودائماً ما كان يستند على طموح لا يعرف الحدود، ولعل انضمامه للإتجاه الإسلامي منذ المرحلة الثانوية بمدينة بورتسودان، ثم توليه للأمانة السياسية بالجامعة فور التحاقه بها، وعمله في بعض الشركات التنظيمية عقب التخرج، ومشاركته في تأسيس المؤسسة الأمنية داخل التنظيم، التي كان لها دور خلاق في تنفيذ انقلاب الإنقاذ، ودوره المرموق في دعم التيار المناهض للترابي، وسده للفراغ الأمني الذي خلفه خروج الأخير، ورهط ميمون من (جلاوزة) الأمن ثم إدارته الحاذقة لملف الحرب على الإرهاب التي غلبّت المصالح المرسلة على القيم المعطّلة، إلا أنها لم تُحرز كبير إنجاز، وإن أحدثت اختراقاً ضخماً في بنية السياسة الداخلية، وثوّرت معالم علاقات السودان على خُطىً جديدة أكثر إنفتاحاً عند البعض، وافتضاحاً عند آخرين.. كل ذلك يشير إلى حتمية الاستجابة القدرية لتحدي تطابق القدرة الذاتية مع الرغبة الطموحة، إذ لا علاقة- كما هو واضح- بين نقطة الإنطلاق من مدينة بورتسودان ونقطة الوصول بالمبنى الفخيم لمستشارية الأمن في مركز الخرطوم.. أما د. نافع الرابض عشر سنوات بكلية الزراعة جامعة الخرطوم_ وهي ضعف المدة التي يقضيها الطالب بوجه عام_ من أجل تحقيق أغراض تنظيمية ذات طبيعة سرية، والمنتقل بعد حين للولايات المتحدة، لتلقي دراسات عليا في الزراعة، والمدفوع به عند قيام الإنقاذ لسد أخطر ثغرة يمكن أن يؤتى منها نظام ناشيء، حين أوكلت إليه مهمة تأسيس جهاز أمن قابض، يعمل بموجبات الشرعية الثورية، ورغم كثافة النقع المثار حول أداء الجهاز من حيث إفراطه في القمع والترويع، وما اعتبرت إخفاقات لازمت بعض العمليات النوعية التي قام بها على المستوى الخارجي، فإن الدكتور مضى إلى مقامات أرقى في التراتيبية الهيكلية للتنظيم المنبثق عن ديالكتيك الإسلاميين وصراعهم الشهير في الرابع من رمضان، وقد حمّله الطرف الآخر وزر المسألة كلها- حسبما ورد في خطاب مفتوح كتبه المحبوب لسان حال الترابي- بعنوان: ( إلى د. نافع: إعلم بأن قماشة الأيام من خيطان غزلك وهي ضافية عليك) حين قال: إن الدكتور المثابر كان هو الأكثر حماسة للإنقلاب على الشيخ، وأنه حشد الطاقات واستفرغ الوسع في إنجاح مخططه، ولم يتوانَ في الدفع بمسيرة الإقتلاع حتى خواتيمها، ولعل هذا البذل هو ما أهلّه لإعتلاء منصب الرجل الثالث في النظام، والثاني في التنظيم وفق ما هو معلن.. ورغم تماهي ذواتا الدكتور والمهندس من حيث: الأهلية الأكاديمية برغم تفاوتها الملحوظ لصالح د. نافع، ومن حيث الحذاقة المهنية والتحاقهما معاً بالمنظومة الأمنية، وما ألقته من ظلال كثيفة على تعاطيهما السياسي، حيث أكسبتهما جرأة في الخطاب والطرح، ووضوحاً في الرؤية والمنهج، بلا غمغمة أو تُقية أو تمويه لكن يبدو أخيراً أن قوش قد انتطح من حيث لا يدري ببعض العقبات الكأداوات التي راح ضحيتها أمينه العام حسب الله عمر، تحت لافتة «إلغاء الشريعة» في حين أنها كانت وما زالت محض صراع على السلطة والنفوذ، وإن إرتدت عباءة الصراع الثنائي بين القيم والمصالح.. ويبقى أن نقول إن نافع وقوش ليس تيارين منفصلين وإن بديا كذلك، إنهما ذاتٌ واحدة تصطرع في طياتها حمم التناقض وينعكس عليها تشوهات المنظومة واضطراب السياق.. لكن مع ذلك يستطيع كل منهما النظر إلى ذاته في مرآة الآخر مع اختلاف الأبعاد وتغير المقاسات. خباب النعمان