أخيراً، وبعد مجاهدة ومعاظلة دامت شهوراً جاءت ليلة الاثنين- الثلاثاء لتكون الليلة الحاسمة التي وضعت حداً لمعاندة وممانعة رئيس ساحل العاج لوران باقبو المنتهية ولايته والخاسر في الانتخابات الأخيرة أمام غريمه الحسن وتارا، عندما داهمت قوة فرنسية فندق الغولف الفخيم، الموقع البديل الذي اتخذه باقبو وزوجته مخبأ بعد أن ضاق الخناق على قصره وسط العاصمة أبيدجان. القوة الفرنسية التي حدَّدت مخبأ باقبو وحاصرت الفندق يبدو أنها سلَّمت الرجل في غرفته فوراً إلى قوات الرئيس المنتخب الحسن وتارا، التي ربما شاركت في العملية أو تبعت القوات الفرنسية بشكل لصيق، فقد أظهرت شاشات التلفزيون باقبو داخل غرفة الفندق وهو خارج من الحمام لتوِّه على وقع المفاجأة وهو يرتدي بنطالاً وفنيلة داخلية يُحيط به رجال أمن من قوات وتارا وهو يجفِّف وجهه ببشكير الحمام، وبدأ وكأنه لم يستوعب ما يجري فاضطر رجال وتارا إلى مساعدته في ارتداء قميصه المزركش قبل اقتياده إلى معتقله الذي سيتقرر من خلاله مصيره الأخير. كانت قوات الحسن وتارا قد دخلت الأسبوع الماضي إلى العاصمة الآيفورية من أنحاء عديدة من البلاد، فيما يبدو أنه هجوم أخير وحاسم ومخطط له جيداً من أجل إنهاء الأزمة التي ضربت ساحل العاج وأعادتها إلى محطة الحرب الأهلية مجدداً، دخلت قوات وتارا بتنسيق مع القوات الدولية، والقوة الفرنسية على وجه الخصوص التي لم تتردد في استخدام القصف الجوي ضد قوات ومواقع وآليات باقبو التي حوَّلت ابيدجان إلى مدينة أشباح، بعد أن رفض الرجل كل النداءات الدولية بتسليم السلطة سلمياً بعد انتخابات مشهودة ومراقبة دولياً، فاز فيها الحسن وتارا بنسبة 54% بينما حصل هو على 46 في المائة، لكنه تحجَّج بأن الانتخابات شابها التزوير، وأن عدداً كبيراً من مناصريه في بعض المناطق النائية حُرموا من التصويت، واستعصم بموقفه هذا ضارباً عرض الحائط بالاعتراف الدولي بوتارا رئيساً منتخباً شرعياً للبلاد، فبدأ باقبو- كما العديد من الرؤساء العرب والأفارقة- لا ينوي مغادرة القصر وسدة الحكم إلا إلى حفرة القبر، ولكن هيهات، فقد تناصرت عليه القوى المحلية والإقليمية الأفريقية والشرعية الدولية حتى انتهى إلى ما انتهى إليه الليلة الماضية، منهياً إلى الأبد فرصته في الحياة السياسية أو حتى الحياة الهادئة المطمئنة التي ينشدها كل إنسان. فور إعلان القبض على باقبو خاطب الحسن وتارا شعبه الآيفوري قائلاً: إن الرئيس السابق لوران باقبو وزوجته ومعاونيه سيقدمون إلى محاكمة عادلة بكل احترام، وإن لجنة وطنية للمصالحة والحقيقة سيتم تشكيلها للاضطلاع بمهمة التحقيق في الجرائم المرتكبة في عهد النظام السابق والحرب الأهلية، من أجل العدالة الانتقالية ورفع المظالم وإعادة الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب. وبينما دعا أنصار باقبو للكف عن إثارة الاضطرابات ومحاولات الانتقام، طالب المليشيات التابعة له والذين قاتلوا معه لتأمين الاستحقاق الانتخابي بتسليم السلاح، الذي لم يعد من داعٍ لحمله، كما قال. وذلك بعد أن أعلن الجيش الآيفوري بجميع وحداته الرئيسية وقادته تأييد الرئيس المنتخب الحسن وتارا والالتزام بتوجيهاته، على حد إعلان مندوب ساحل العاج لدى الأممالمتحدة يوسف بومبا، والذي أكد أيضاً أن اعتقال باقبو لم يثر احتجاجات تذكر، خصوصاً أن الرئيس وتارا هو من كسب الانتخابات مما يؤكد شعبيته في أوساط الآيفوريين الذين منحوه ثقتهم، وأن باقبو هو الذي رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات وهذا ما أفقده ثقة الشعب، وأن الاضطرابات وأعمال القتل والتخريب أفقدته ثقة حتى بعض أولئك الذين راهنوا عليه واقترعوا لصالحه في الانتخابات. اعتقال باقبو أثار ارتياحاً واسعاً في الأوساط الدولية، باعتباره نهاية لأزمة أقلقت المجتمع الدولي والقارة الأفريقية لشهور متطاولة، وهدَّدت بعودة الحرب الأهلية الشاملة القمينة بتقسيم البلاد مجدداً إلى شمال مسلم وجنوب مسيحي، فقالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إن اعتقال لوران باقبو يرسل رسالة قوية إلى كل الدكتاتوريين في كل المنطقة ومختلف أنحاء العالم بأن حكم الشعوب بالقوة لم يعد ممكناً، وأن الديمقراطية وخيارات الشعوب هي التي ستنتصر في نهاية المطاف، كما رحب وزير الخارجية البريطانية وليم هيج بالخطوة، موصياً بأن يعامل باقبو وفق مقتضيات العدالة وحكم القانون، كما أثار اعتقال باقبو في الوقت ذاته ابتهاجاً لافتاً، حيث خرجت جموع كبيرة من مواطني ساحل العاج في مظاهرات فرح وتنديد بالرئيس العنيد وطالبت بمحاكمته على ما اقترفه من جرائم في حق الشعب وتخريب للبلاد. لكن بعض المراقبين رأوا أن عودة الهدوء إلى ساحل العاج لن تتم بالسرعة التي يتوقعها الرئيس المنتخب أو القوات الدولية، وأن أنصار باقبو ربما يلجأون مجدداً لإثارة الاضطرابات والأعمال الانتقامية، ربما بتوجيه من بعض أعوانه المقربين الذين لا يزالون طلقاء، خصوصاً وباقبو لم يكن بلا حزب أو أنصار ومؤيدين هم الذين منحوه 46 في المائة في الانتخابات الأخيرة، وربما كان هذا هو ما دعا الرئيس وتارا إلى مناشدتهم بالهدوء والاتجاه نحو الحقيقة والمصالحة والعدالة الانتقالية، التي لا يُظلم فيها أي فريق وتعيد اللحمة الوطنية وترتق ثقوب النسيج الاجتماعي الآيفوري المهترئ وتجلب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. التجربة الآيفورية أثبتت، كما هو الحال مع ربيع الثورات العربية، أن الطريق إلى الحرية والعدالة والديمقراطية ليس مفروشاً بالأزاهير والورود، بل هو طريق شائك ودامٍ، كذلك الذي مشاه السيد المسيح في يومه الأخير «درب الآلام»- قبل رفعِه- فداءً للسلام والمحبة، ولكنه طريق لا سبيل في النهاية من سلوكه إذا ما أرادت الشعوب الانعتاق والخلاص.