والاعتذار لا يصدر إلا من شخوص يتصالحون في نبل مع أنفسهم.. أنه لا ينقص من المعتذر مثقال ذرة من كرامة.. أو رجولة.. أو بسالة.. بل يدفع به إلى المجرات البعيدة هناك مع الأفلاك المضيئة والأقمار الباهرة والشموس المشرقة.. إن الأحترام والتوقير والإكبار الذي وجده المقاتل الثائر نلسون مانديلا.. كان فقط في ذاك المسلك الرصين والحكمة الشاهقة وهو يبتدع سنة الاعتذار وبذا صار ملكاً للعالم أجمع وليس ملكاً لأفريقيا.. بعد أن جنب بلده الحبيب ويلات الحقد.. وبراكين الغضب.. وبشاعة وأهوال الانتقام، وبذاك النهج الحضاري والمتحضر.. أبحر مانديلا بسفينة وطنه وهي تشق الأمواج متجهة إلى مرافيء النجاح والازدهار وهي تحمل أبناء الوطن الواحد من بيض وسود.. وبعد أن غسلوا قلوبهم من تلك المرارات.. مديرين ظهورهم وإلى الأبد.. لجنون ووحشية الفصل العنصري.. ومآسي الاسترقاق والاضطهاد وإذلال آدمية الإنسان. ولأننا.. ننشد السلم والسلامة إلى وطننا.. ولأن تجربة مانديلا تعتبر نموذجاً وضيئاً ينير طريق الخلاص.. فقد طالبنا.. الإنقاذ بالإعتذار إلى جماهير شعبها تكفيراً لموبقات ومظالم.. وغلظة.. وقسوة.. التصقت بها عند انطلاق عاصفتها تلك الهائجة.. في بداياتها وحتى الآن.. وصولاً لسلم وسلام.. وحتى تتفرغ الصدور من الهواء الساخن بل الإحتقان.. ولكنها ترفض.. وكأن الاعتذار هو مذلة وتراجع وانكسار.. وكانت أصوات قبل ذلك قد طالبت «شيخنا» وبعد أن ودع أحبته أو أخوانه بل تلامذته وبعد أن بارح ديارهم ونثر وكشف على رؤوس الأشهاد وعبر فضاء الدنيا.. تلال الرزايا وجبال الأخطاء.. وأمواج الظلم.. وكشف الغطاء معترفاً بالتزوير.. وسلسلة من التجاوزات إبان عهده.. طالبته تلك الأصوات فقط بالاعتذار.. ولكنه اعتصم بالرفض المطلق.. بل قال إنه لن يعتذر لأحد بل يكون الاعتذار فقط لرب العباد سبحانه وتعالى.. وكنا قد قلنا له يومها إن الاعتذار لله في ذاك اليوم المهيب والرهيب.. يوم القيامة لن يجدي نفعاً ولا يصرف ضراً.. لأن المقام هناك مقام حساب وليس اعتذار.. ولأننا نعلم سلفاً أن هذه الحكومة لن تعتذر لأحد.. لأنها عنيدة.. و«قوية الرأس» ولأنها تلميذ مطيع لشيخها ولأنهم وكلهم قد شربوا من نبع واحد.. ولأنهم جميعهم «كيزان» حسب اعترافهم.. ولأننا.. نخاف على هذا الوطن من كل تتري وكل هولاكي.. ولأننا نخشى على صباياه من كل جنكيزخان.. فها نحن نبذل ما وسعنا لنجد اعتذاراً ولو ضمنياً من الحكومة لنغفر لها ونسامح ونصفح.. ودعونا أولاً.. نعتبر اتجاه الحكومة للالتزام الصارم والحديدي للاختيار للخدمة العامة يكون فقط عبر التنافس الحر بين أبناء وبنات الوطن الواحد.. بلا أدنى محسوبية.. ولا تمييز.. المعيار في ذلك فقط المؤهلات.. وها نحن نعتبر ذلك أو ذاك التوجيه السعيد.. هو اعترف ضمني بأن الذي كان سائداً في الوطن لواحد وعشرين سنة وتزيد.. هو تلك الأخطاء الجسيمة في حق أبناء الوطن.. حيث كانت الوظائف والاختيار للخدمة حكراً مطلقاً لأبناء المسؤولين وجيران الدستوريين وأصهار التنفيذيين.. وجيران المقربين.. ولأننا شعب سمح الشمائل.. نبيل متسامح وأصيل.. دعونا نعتبر ذلك من الحكومة اعتذاراً.. ودعونا نقبل ذاك الاعتذار.. واعتراف ضمني آخر.. واعتذار مغلف أو «مدسوس» على حياء في الأمر الذي انتظره الشعب طويلاً.. وهو خروج الحكومة تماماً من «العمرة».. والتخلي عن السيطرة الكاملة على الحج.. وهذا أيضاً اعتراف ضمني بالخطأ.. واعتذار خافت لكل «الحجاج» الذين جابهوا الأهوال.. وتعرضوا للبهدلة والتلتلة.. ودعونا نقبل ذاك الاعتذار ونمد أيدينا بالعفو والصفح والغفران.. ولكن وفي هذه الحالة دعونا نقول لكل من أدى فريضة الحج من أموال الدولة.. ونهمس في أذن كل الآلاف من «الأمراء».. أن يعتبروا حجهم هو فقط زيارة للأراضي المقدسة وليس حجاً بأي حال من الأحوال.. لأن الحج يجب أن يكون من حر مال الحاج ويجب أن يكون مالاً حلالاً.. وليس من أموالنا نحن دافعي الضرائب والجبايات.. ثم نواصل سلسلة اعتذارات الحكومة.. وقبولنا للاعتذار.