من ذكرياتي المشرقة عن جمعية حماية البيئة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، الاهتمام بالغابات وحماية حظيرة الدندر وغيرها من الحظائر في الشمال والجنوب.. كان الوعي بقضايا البيئة واهياً أو معدوماً حتى في أعلى المستويات الحكومية.. ويحمد للإدارة الاستعمارية أنها تركت لنا لوائح جيدة لم تكن بحاجة إلا لبعض التعديل والتحديث.. وقد تضافر التفهم الحكومي قبل ثلاثة أعوام مع حملة جمعية حماية البيئة لإنقاذ جزء كبير من غابة المقرن التي تعتبر محطة إستراحة ضرورية للطيور المهاجرة (مثل «أم الطيور» في نهر النيل وغيرها)، لكن حماية الغابات منيت بنكسة كبرى عندما اضطرت قسوة النزوح لاجئي معسكر «كلمة» لإزالة واحدة من أكبر غابات دارفور إزالة شبه تامة. يدل ذلك على الصلة الوثيقة بين السياسة والبيئة، وقد ذكرت وانغاري ماثاي (الكينية التي منحت جائزة نوبل لجهودها البيئية)، أن أزمة دارفور بداية لنزاعات التصحر، وقالت إن موضوع حماية البيئة لا ينفصل عن الأمن الوطني، لأن التصحر يفضي إلى النزاعات التي تهدد الاستقرار. هذا هو السياق الذي يدعو إلى الإشادة بقرار منع الصيد ونتمنى أن تتلو ذلك قرارات عملية لإعادة تنظيم وتمويل وتسليح القوات المكلفة بحماية الحيوانات المتوحشة. الشق الآخر هو منع بيع جلود وبيض الحيوانات المهددة بالانقراض داخل السودان، مثلاً: (جلد الأصلة، الفهد وبيض النعام)، ولدينا بدائل رائعة في الأعمال اليدوية التي ينبغي أن تشجع، المحزن هو أن بلادنا صارت سوقاً لجلود الحيوانات المجلوبة عبر المهربين من دول الجوار. المعضلة- كما لا يخفى على القاريء- هي الموازنة بين التنمية وحماية البيئة بحيواناتها وأشجارها وأنهارها، وقد أثير هذا الموضوع أثناء مؤتمر في جامعة اكسفورد يوم «11» مارس الماضي. قلت رداً على صور عرضت عن نماذج من تلوث النيل، إننا لا يمكن أن نعترض على التنمية بحجة حماية البيئة وإلا صرنا مثل الإنجليز ال(LUDDITES) الذين اعترضوا على استحداث الآلات الجديدة أثناء الثورة الصناعية (لأنها تحل محل العمال)، وأخذوا يدمرونها. الحل الأمثل هو أن نواصل التنمية ونتدارك مثالبها كما فعلوا ويفعلون في أوربا والولاياتالمتحدة.. ومن أفضل الأمثلة على ذلك الاتفاق الذي تم بين هيئة الغابات وشركات النفط على زراعة أشجار بديلة لتلك التي تزال عند التنقيب. وهناك اتفاق الآن على أن حماية البيئة يمكن تنسيقها مع مصالح التنمية (مثل السياحة والاستثمار)، بمعنى أن تصان الغابات كجزء من خطة تشمل زراعة أشجار جديدة وحصاد أشجار أخرى وإقناع الذين يعيشون حولها أو قربها بحمايتها لما تجلبه لهم من سياحة.. ويمكن من هذا المنطلق إنقاذ حظيرة الدندر (التي قرأت أن مهاجرين من داخل وخارج السودان استوطنوا في بعض أجزائها- ولن تمضي سنوات قبل أن يستولوا عليها كلها!). إذا اقنعنا مستثمرين أجانب أو سودانيين بزراعة المزيد من الأشجار وإعادة المزيد من الحيوانات الوحشية والتسويق الدولي سياحياً، لضربنا أكثر من عصفور بحجر (دون أن نؤذي العصفور بالطبع).. وبوسعنا أن ندرس تجربة كينيا في هذا المجال.وللجمعيات الأهلية (غير الحكومية) دور مهم في هذا المجال، بالذات في الولايات القصية.. وهي من الجمعيات التي يستحسن أن نقنع دول الغرب بتمويلها.. تهتم هذه الدول بتمويل الجمعيات ذات الطابع السياسي وبعض الأحزاب وبعض المنظمات المسيسة، فتشوه معنى «المجتمع المدني»، لأن الجمعيات الأهلية ينبغي أن تكون نابعة من المجتمع ومتجذرة فيه، أما الجمعيات التي تسعى لحماية الغابات أو الطيور أو الحيوانات المتوحشة أو الأنهار، فإنها تمثل نقطة التقاء لمصالحنا مع مصالح الآخرين ويندر أن نختلف.صفوة القول إن قرار منع الصيد حكيم وسليم، فالحيوانات المتوحشة لها حقوق في السودان مثلنا، ولن نهنأ في بلادنا إذا تغولنا على حقوقها وعلى البيئة الملائمة لها.