في هذه المرة لم أنظر للعسكري بغضب في مثل هذه المواقف، بل وافقته في وجهة نظره التي تبدو جارحة ظاهرياً، ولكنه كان يقصد أمراً آخر وكما يقولون «أطلق الجزء وأراد الكل». العسكري قال لي أمام البوابة الغارقة في البهرجة والألوان والألعاب النارية وأشعة الليزر «المسالمة»، قال لي: حقوا ترجع الجابك بعد ده شنو!! الوالي ذاتو طالع وما أظن تلقا ليك «فرقة».. قلت له صدقت، فسوء تقديري جعلني اتمهل في الحضور ولم اتوقع أن يكون الحضور بهذا الشكل الخرافي والعفوي.. فهذا المكان لم يألف هذا الزحام من قبل، وربما شهدت الميادين الشمالية زحاماً شعبياً عندما كانت تحتضن هذه المنطقة سوقي الأحد والاربعاء قبل أن يتم ترحيلهما للدروشاب!! دخلت بصعوبة بسبب الزحام ولمحني الصحفي المثابر والصديق القديم واعلامي الولاية الحالي «صلاح أحمودي» وهيأ لي من أمري رشداً بكرسي وثير.. لا يبعد كثيراً عن «الخاصة» الذين احتلوا الصفوف الأمامية، ولا يقترب من «العامة» ملح «الأرض» ونكهتها والذين احتلوا تماماً كل المنطقة الخلفية والكراسي والأجنحة والبلكونات وهم يرقصون ويتمايلون فرحاً وابتهاجاً بمناسبة قدوم «أمة» جديدة لمدينة بحري بافتتاح «مسرح خضر بشير» هذا الحلم الذي طال انتظاره كثيراً.. ترحمت على روح المرحوم الصحفي والمسرحي والناقد سيف الدين محمد صالح، والذي لم يتذكره مدير المسرح الجديد ومذيع الحفل إبراهيم عالم ضمن اولئك الذين حملوا هم قيام هذا المسرح.. ولا زلت أذكر مجهودات المرحوم سيف مع المسرح القديم والذي كان في هذه البقعة قبل سنوات قبل أن يتم تشييده الآن بهذه الصورة الفخمة الجميلة. الوالي والوزراء ولفيف من أهل الحكم وقادة المجتمع بدأوا سعداء بهذه الاحتفالية.. وكانوا يتمايلون طرباً مع إبداعات ود اللمين ومحمد خضر بشير والأكروبات والعروض المسرحية بصورة جعلت صديقي.. الذي يجاورني يقول لي بخبث «الكيزان ديل قلبوا»، وعندما قال الفنان محمد الأمين إن الثقافة والفنون وجدت في عهد هذا النظام اهتماماً كبيراً، التفت إلىَّ صديقي مرة أخرى وقال لي: ود الليمن ده قلب ولا شنو؟! ضحكت كما لم أضحك من قبل وقلت له يا صديقي إنها الانطباعية السودانية القديمة والنظرة للأشياء دون الغوص في الأعماق!! في نهاية الحفل حرصت على لقاء السيد الوالي لأشكره أصالة عن نفسي وإنابة عن أهل المنطقة.. خصوصاً أهلي في الدروشاب على هذا الإنجاز الكبير.. فالمسرح الوحيد الذي كان متاحاً لنا هو «سوق الأحد»، أو ضرب أكباد الإبل للذهاب للمسرح القومي بأمدرمان وهذه تحتاج لثلاث مواصلات + حق العشاء ألا تستحق حكومة «الخضر» الشكر على مسرح «خضر». أتمنى من كل قلبي أن يكون مسرح خضر بشير مسرحاً للجميع ورئة ثقافية لبحري.. تتنفس منها بحري ثقافة وإبداعاً. واعطيني مسرحاً أعطيك امة..