كنت قد شرعت- في المقال السابق- في استدعاء الذاكرة التأريخية والخلفية الاجتماعية والسياسية لولاية جنوب كردفان، تمهيداً لدراسة المسرح السياسي الراهن الذي ستجرى على خشبته اللعبة الانتخابية بالولاية. والذي سندرسه من خلال هذا المقال ونختم بتقديم وصفة سياسية للمخرج الآمن من الأزمة الراهنة، وعلى الله قصد السبيل. لقد رتب المؤتمر الوطني كعادته، أوضاعه بشكل جيد لخوض الانتخابات والفوز بمقعد الوالي والمقاعد الولائية التشريعية، وذلك من خلال برنامج مستوعب وعالي المرونة، يرتكز على ميراث ضخم من الكسب السياسي وسجل عامر بالعطاء في التنمية والخدمات والفعل السياسي وبسط الأمن. لقد نجح المؤتمر الوطني بالولاية بأذرعه التنفيذية والسياسية والأمنية والمجتمعية الأخرى في استكمال مشروعات كبرى في البنى التحتية والخدمية تأخر تنفيذها جداً رغم أهميتها، بل فاجأ المؤتمر الوطني وحكومته والرأي العام الولائي والقومي بابتكار مشروعات حيوية كانت فوق تصور المواطن وطموحه الذي تأثر بالإحباطات المتكررة واليأس الضارب، مما يقنع الناخب بإمكانية استكمال النهضة والأمل في مستقبل باهر ومشرق بالولاية، وأشعل المؤتمر الوطني المسرح السياسي بالولاية بحملة تعبوية قوية وناجحة تقدمها كبار القادة مما يرجى ثماره ونتائجه الإيجابية. أما الحركة الشعبية فهي تدخل الانتخابات بلا برنامج وبلا هوية.. بلا برنامج لأن ما ظلت تعتمده الحركة الشعبية وتجمدت عنه منذ مجيئها، هو دعاوى التهميش والظلم ونقص التنمية، هذه السلعة التي بارت وكسدت في سوق السياسة المعاصر والمتجدد.. وللأسف الشديد أن الحركة الشعبية ظلت تبالغ في تهميش وظلم المخالفين لبرامجها من الموالين وعامة المواطنين بصورة واضحة وفاضحة لا تحتاج إلى كبير عناء، وأن ما بذلته حكوماتها المركزية وفي جنوب السودان وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق في مجال الخدمات والتنمية وإنصاف المظلومين، لا يزيد عن الصفر شيئاً.. ليظل الخطاب والبرنامج الانتخابي للحركة الشعبية بجنوب كردفان هو استدعاء العنصرية ومحاولة استقطاب النوبة ليصطفوا معها ضد المؤتمر الوطني.. المؤتمر الوطني الذي بنوه بأيديهم وضحوا في سبيل تمكينه!!.. وقد بدأت للأسف إفرازات هذا التحريض العنصري تظهر من خلال الصدامات المسلحة التي وقعت في المنطقة الشرقية للولاية مؤخراً، هذه المنطقة التي ظل أهلها عبر التأريخ يتمثلون أرفع الأخلاق في المودة والتعايش السلمي ولا يعرفون الصراعات أو النزاعات القبلية.. أمة شغلها الذكر والقرآن وحب العمل والإنتاج عوضاً عن كل مساويء الآخرين، وقد ظل السجن العمومي برشاد يشهد عبر التأريخ أنه قد ضم في أحشائه أناساً من كل حدب وصوب ما عدا أهل المنطقة!!.. أما فقدان الحركة الشعبية للهوية فيبدو من خلال المشكل القانوني لمرشح الحركة لمنصب الوالي بجنوب كردفان.. فقد صارت حركته دولة أجنبية لها شخصيتها الاعتبارية والسيادية وجنوب كردفان ليست جزءاً من ذلك بالطبع، بل أصبح المرشح الآخر الأكثر نضالاً ووفاءً للحركة الشعبية «داخل» سجونها ولكن «خارج» منظومتها السياسية، يخوض الانتخابات مستقلاً بعد أن طبقت فيه الحركة الشعبية جزاء سنمار، ليصبح باستقلاله أكثر أصالة وهوية. إذا لم تحسم سلطات الانتخابات والجهات العدلية في البلاد إشكالية الانتساب السياسي الوطني لما يسمى بمرشح الحركة الشعبية لمنصب الوالي، ستنتج من ذلك تداعيات مستقبلية حرجة جداً وأن زيارات وفود قيادات الحركة الشعبية من دولة الجنوب للولاية ستكون مستفزة ويكون إسهامها سالباً في حصاد العملية الانتخابية للحركة الشعبية.إن موافقة المؤتمر الوطني على استثناء جنوب كردفان من العملية الانتخابية القومية في العام الماضي، كان مجاملة خاطئة للحركة الشعبية التي تعمدت إجهاض عمليتي التعداد السكاني والسجل الانتخابي، ثم تتم الإعادة بموارد مالية وبشرية إضافية غير مبررة وتعرض العملية الانتخابية لظروف جديدة ومناخ مختلف، وهي مجاملة تعودت عليها الحركة الشعبية من المؤتمر الوطني الذي تنازل لها عن حقه المشروع في حكم النيل الأزرق حسب مجريات الانتخابات، ضارباً عرض الحائط بجهود ومشاعر ناخبيه هناك، ومعطياً سابقة خطيرة جعلتها الحركة الشعبية حقاً ينبغي أن تناله أيضاً في حكم جنوب كردفان لتشابه المنطقتين والحالتين، وقد استنسخت الحركة الشعبية شعارها هناك في النيل الأزرق «النجمة أو الهجمة» لتقرر بطلان الانتخابات وحتمية تزويرها إذا لم تفز الحركة الشعبية بمنصب والي جنوب كردفان!! ختاماً: إن تجاوز الأزمة في جنوب كردفان في تراضي أهلها عرباً ونوبة.. مؤتمر وطني وحركة شعبية.. مستقلين وقوى سياسية أخرى، التراضي حول ميثاق للسلام والتعايش والاستقرار، يفوت الفرصة على دعاة الفتنة وضاربي طبول الحرب والصراع.. ميثاق يبدو من خلاله المؤتمر الوطني كبيراً ومستوعباً لآمال كافة أهل الولاية حسب أقدميته وخبرته وكسبه، متجاوزاً حماقات البعض ومعترفاً بوجود الآخر ومستعداً لإشراك الجميع في قيادة ولايتهم وإصلاح مجتمعاتهم.. ميثاقاً يبدو فيه أعضاء الحركة الشعبية من أبناء الولاية أكثر موضوعية.. متجاوزين لمرارات الماضي.. شاكرين لقادتهم في الدولة الانفصالية بجنوب السودان.. مقبلين بفعالية للانتماء لوطنهم جنوب كردفان بالسودان الشمالي.. ناسين لشعارات التهميش الجوفاء.. كافين عن إثارة النعرات العنصرية الذميمة.. مشمرين عن سواعد البناء.. ميثاق يعترف بوجود الفعاليات السياسية والاجتماعية الأخرى والإفساح العادل لهم للإسهام في مستقبل ولايتهم، ويمكن في هذه الحالة الاتفاق على تأجيل الانتخابات لمدة محددة يتم فيها استكمال العقد الاجتماعي الجديد، ثم الانتقال السلس للمشروعية الانتخابية أو تقوم الانتخابات ولكن في ظل مناخ ودي يؤسس له مثل هذا الميثاق.