إن الموت حق وهو سبيل الأولين والآخرين ولكنه أحياناً كثيرة يكون صعب الاحتمال وخاصة إذا قدر الله الرحيل لمن لهم الوجود الطيب بين عامة الناس، وفقيدنا الذي نريد الحديث عنه من هؤلاء.. ففي الأسبوع الماضي فجعنا برحيل رجل فيه صفات نادرة الوجود إلا عند القلة- ألا وهو الشيخ الجليل عوض محمود أحمد فضل المولى، المشهور بعوض دوكة.. وقد توفاه الله بجمهورية مصر العربية، فقد ذهب إليها مستشفياً. . وقد تم نقل جثمانه إلى أرض الوطن حيث تم دفنه في مسقط رأسه بقرية النوبة شمال أم درمان وقد شيعته جماهير لم أشهد مثلها في الزمن القريب لأن مكانة الفقيد عند من يعرفونه قد فرضت هذا الحضور المكثف، فالمرحوم عوض دوكة يعجز الإنسان عن وصفه أو إحصاء فضائله، فهو شخصية نادرة- وإذا تحدثنا عن الأشياء المهمة فيه.. فنقول إن علاقته بربه هي علاقة المؤمن الصادق بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.. وهو المتفقه في دينه وهو العالم العامل بعلمه بين الناس بالإرشاد والدعوة إلى الله.. والمرحوم عوض دوكة يعتبر من أول الداعين للحركة الإسلامية بمنطقته، وعندما كانت هذه الحركة تبحث عن موضع لقدم.. فقد جعل من داره المنطلق الأول ولاجتماعاتها السرية، وقد كان هو أول المستقبلين والمضيفين لهؤلاء الذين كانوا يبحثون لمؤيدين لهم وما كانوا يجدون من يقدمهم لأهل هذه القرى غير المرحوم عوض دوكة، لأنه معروف بين الجميع ويتصف بالتدين والأخلاق الحميدة ولهذا قد وجدت دعوته القبول وهو منذ نشأته شجاع وصاحب آراء قوية وخطيب مفوه، ولهذا فقد كان سبباً في تسهيل الطريق لدخول الحركة الإسلامية.. وكان دليلها في الريف الشمالي عندما جاءت باسم جبهة الميثاق، ثم الجبهة الإسلامية وأخيراً المؤتمر الوطني، وقد كان المرحوم عضواً صادقاً في دعوته من أجل الإسلام ومتمسكاً بمبادئه الإسلامية لا ينطلق من غرض دنيوي أو مصالح ذاتية كما يفعل البعض من الذين ارتدوا ثياب الإسلام وهو بريء منهم.. ولهذا فإن عوض دوكة في سلوكه ومعاملاته كان يشبه بعض من ينتمون للمؤتمر الوطني وخاصة في منطقتنا.. ولهذا فقد ظل يجد عندي كل الاحترام والتقدير الذي يستحقه فعلاً.. وعوض دوكة ظل هو الأول في المنطقة بتمسكه بالحركة الإسلامية، لأنه قد كان يتمتع بصفات من أهمها القبول عند الله، وبهذا القبول أصبح مقبولاً عند كل الناس.. ورغم ذلك فلم يسعَ ليتبوأ منصباً، بل كان يدعم الآخرين ويقف خلفهم ولم يعمل لاستغلال قبوله في المنطقة ليحقق أي مصلحة.. وقد كان مشهوداً له بالشجاعة في الرأي.. وكان سريع البديهة حاضر الذهن ومرتباً في القول ويفرض وجوده في كل مكان يتواجد فيه، لأنه يعبر بالمفيد من القول، وكان يحب الطرفة المحببة ويهتدي بالروايات التاريخية وبالأمثال التي يحفظها عند ظهر قلب، وهو يعتبر أديباً ويتمتع بثقافة عالية وقد أشاد به وتحدث عنه أيام المأتم العالم الجليل الشيخ الحمدابي، والذي كان كثيراً ما يلتقي بالمرحوم عوض في أهم موقع يعتبر من المنارات القرآنية في ريفنا الشمالي، بل على مستوى ولاية الخرطوم وهو مركز الدعوة بالجزيرة اسلانج وهو موقع مرشح ليكون أحد فروع جامعة القرآن الكريم، والشيخ الحمدابي من المتعاونين مع مركز الدعوة هذا.. والمرحوم عوض دوكة قد ظل يحرص على حضور ما يقدم من محاضرات فيه وقد كان من المعجبين بالشيخ الحمدابي وغزارة علمه.. وقد اتضح لنا أن الشيخ الحمدابي قد كان كذلك من المعجبين بالمرحوم دوكة لأنه قد كان من أصحاب المداخلات المفيدة والتي تتسم بالطرافة.. وكان الشيخ الحمدابي قد تحدث في المأتم يوم رفع الفراش وقال عن المرحوم دوكة حديثاً أبكى الحضور وزادهم معرفة بخصائص كانوا يجهلونها عن فقيدهم العزيز، والمرحوم عوض قد كان موسوعة في كل شيء ويعرف بأنه فاكهة المجالس.. ومع تمتعه بكل هذه الصفات فقد كان كثير التواضع ويقابلك دائماً هاشاً باشاً بوجه مشرق وسريرة طيبة وهو صاحب ضحكات مجلجلة تسعد كل من حوله.. وهو صديق للجميع ولا عداء له مع أحد وهو المواصل في السراء والضراء.. وهو الخدوم لأهل منطقته وهو المسارع لإصلاح ذات البين.. ولقد كان عوض دوكة عفيفاً لم يستغل وضعه أو معرفته بأهل الجاه والسلطان في الدولة، وعاش في حياته عيشة الكفاف، وقد ظل راضياً وغنياً بما أعطاه الله من رزق وغادر هذه الدنيا وهو لا يملك فيها إلا العمل الطيب والسيرة الحسنة وحب الجميع له.. ولهذا لابد لي أن أقول كلمة حق بأن المرحوم عوض ورغم ما قدمه للإسلاميين وللمؤتمر الوطني، فقد ظُلم منهم في حياته ولم يجد منهم الجزاء الذي يستحقه وخاصة في فترة مرضه الطويلة والمكلف بالأسفار المتكررة للأردن وأخيراً للقاهرة، وقد حدث أن كتبت عنه وعن ظروفه في آخر لحظة ودون أن أذكر اسمه ولكن بلا جدوى وقد قام بكل الواجب نحو أهله وأفراد أسرته بقرية النوبة خير قيام، ولكن عوض ما كان ملكاً لأهله وأسرته، بل إن أفضاله قد شملت كل من جاء باسم الإسلاميين أو المؤتمر لوطني الذي كان عوض صاحب الفضل الأول في وجوده، لأن قرية النوبة ومسقط رأسه هي القرية الأولى التي كان لها الفضل الأول في دخول الإسلاميين للمنطقة، والسبب في هذا عوض دوكة رغم أن الإسلام في ريفنا بخير والحمد لله وهو الأقوى لأنه ليس الإسلام السياسي، بل إسلام الطرق الصوفية وأهل القرآن والإسلام الحقيقي، إنه إسلام سيدي الشيخ الطيب ود البشير، والفكي الأمين ود أم حقين، والشيخ ود الطريفي، والشيخ ودمكي ورجل القرآن ود أبو حوة جد المرحوم دوكة لوالده، ورغم كل هؤلاء فقد اجتهد دوكة بوجود إسلاميين من نوع آخر وقد فرضوا نفوذهم واستفادوا من المنطقة، وقد كنت أتوقع أن تتكفل الدولة بعلاج دوكة والصرف عليه، ولكنه قد ظلم منهم في حياته وإنها إرادة الله ولكني أناشد بأن يجد المرحوم دوكة الإكرام بتخليد اسمه بعمل يكون فيه الخير لأهل قريته والتي كانت هي الأولى التي دعمت المؤتمر الوطني بالمنطقة وجعلته الآمر الناهي وأخيراً لا نقول إلا ما يرضي الله- إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله- ورحم الله عوض دوكة واسكنه فسيح الجنان.. وجعل البركة في أبنائه وكل أفراد أسرته.